ثمة بون شاسع بين ''التلميع'' والبحث عن الحقيقة، ولكن أحياناً تتلاشى الفوارق وتتقارب المسافات ويصعب على المتلقي إدراك الفارق بين ''الإعلان'' و''الإعلام''، وغياب هذا الفارق هو جزء من أزمة المصداقية التي يعانيها كثير من وسائل الإعلام سواء كانت مكتوبة أو مقروءة، وهو أيضا جزء من تراجع معدلات مقروئية الصحف العربية لمصلحة الفضائيات و''الإنترنت''، لا سيّما أن معظم الصحف تخلّت عن دور البحث والتحليل الذي يمكن أن يميّزها عن الأخبار المتلفزة، ولو أن الأخيرة تمدّدت أيضا لتشغل حيزا كبيرا من ساعات بثها في برامج البحث والتحليل بغضّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول مضمون تلك البرامج ومدى جدّيتها·
هناك خيط رفيع بين الدعاية والإعلام في العمل الصحفي، وبيانات العلاقات العامة التي تصدرها معظم الجهات الرسمية والشركات لتغطية أخبارها هي أميل وأقرب إلى الدعاية منها إلى الإعلام بمعناه الحرفي، ولذا لا يبدو غريبا أن يلحظ القرّاء هذا القدر الهائل من التشابه بين أخبار المحليات في صحافتنا، اللهمّ إلا بعض التغييرات في العناوين لحفظ ماء الوجه وإضفاء شيء من التميز المهني، وهذه القضية جديرة بالنقاش الذي أثارته صحيفة ''الاتحاد''، أمس، على صفحاتها· والمؤكد أن الصحفيين أنفسهم مسؤولون بشكل رئيسي عن انتشار صحافة ''البيانات'' أو ''الفاكسات'' أو ''الإيميلات'' ولنعترف أنه إذا كان لتنامي اعتماد الشركات والمؤسسات والوزارات على شركات العلاقات العامة دور في هذه الظاهرة، فإن ذلك لا ينفي دور الصحافة المحلية التي تغيب عنها في كثير من الأحيان ثقافة البحث والتحرّي الصحفي، فالمندوب الصحفي في أغلب الأحيان مهمّته تقترب من مهمّة مندوب العلاقات العامة في أي دائرة أو مؤسسة حكومية، حيث يكتفي بمهمّة استلام البيانات الصحفية وتوصيلها للصحيفة من دون تدخّل مباشر أو سعي حثيث للحصول على ''خبر خاص'' لصحيفته، وهذا الأمر ناجم بطبيعة الحال ليس عن قصور في حرفية كثير من هؤلاء المندوبين، بل يعود بالأساس إلى عوامل متشابكة منها بيئة العمل في الوزارة أو الشركة التي يتولى تغطية أخبارها، حيث تسيطر المركزية الشديدة في كثير من الأحيان، كما أن هناك عوامل ''ثقافية'' عديدة تسهم في الحدّ من نشاط المندوب، ناهيك بالطبع عن الرقابة الذاتية التي يمارسها بعض المندوبين على أنفسهم تفادياً لإثارة الإشكاليات التي قد تهدد عمله، وأيضاً هناك القصور المهني الذي يبدو واضحاً في معالجة بعض القضايا من خلال تحقيقات صحفية مبتورة لا تمتّ بصلة تذكر لفنّ التحقيق الصحفي، فضلاً عن تراجع دقة المعلومات المنشورة وغياب التخصصية في العمل الصحفي، ما يؤدي بالنهاية إلى ظهور نمط شائع من الصحفيين يغطي المجالات كافة!
وإذا سلّمنا بأحقية شركات القطاع الخاص في الاستعانة بمن تريد في تحسين صورتها لدى الجمهور، فإن من الغريب أن تلجأ أي وزارة أو دائرة حكومية إلى الوسيلة ذاتها، ولكن بالنهاية ليس أمام الصحافة سوى أن تسعى إلى انتزاع أي هوامش حركة تضمن لها دوراً فعّالاً·
عن نشرة أخبار الساعة
الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
www.ecssr.ac.ae