هنا مخيم الدهيشة· هنا قلب مدينة بيت لحم· هنا أنا حيث ولدت وحيث أعود وحيث أبعث حياً من جديد· هنا أخطو خطوتي الأولى صوب مخيمي، بوجل غزالة وانتباهات نمر: خطوة الرضيع بعد ملل الحبو الطويل· على عتبة هذا المخيم المقدس تنفض قدماي أربعين خريفا تعفرت بها في كل مدن الأرض· أعود يا أمي تائبا بعد خطيئة البعاد· أرمي رأسي على صدر الحليب الأول، كما غادرته، وأغفو· أهمس في أذن صديقي أرجوك لا توقظني· اتركني نائما بلا أمد، ودعني أسوح في أزقة عريني الأول· دعني أعود قدمين حافيتين تتراكضان بلا بوصلة· تأتيان أول ما تأتيان إلى هنا· لماذا هنا، وليس في ''وادي فوكين''، عنوان البداية الأولى، قريتي قبل اللجوء· أيه بيت لحم· مدينتي التي أعرفها ولا أعرفها· أيه ''وادي فوكين''، قريتي التي أتوه عنها· وأيه أيها الدهيشة، مخيمي الذي أتسرب فيه· ما عدت بعد اليوم من بعيد أرقبك· رأيتك هدمت كل الأسوار التي حاصروك بها· دككت بوابة السجن التي فرضوها عليك ذات انتفاضة· وظللت طالعا صاعدا ''تنجب زعترا ومقاتلين''· كنت أتشاوف بك حيث كنت، من دون أن أراك·
قدماي اليوم تتحسسان صلابة أرضك الحنون، كما كانتا قد تحسستاها يوم اشتد فيها نبض المشي والعثرة الأولى· أخطو خطوتي الأولى الجديدة لا عثار فيها، تنتظم على ترنيم وجع الفرح البريء، وأدلف فيك دفعة واحدة كقبيلة غازية· قبيلة في واحد أنا· أنا مليون لاجئ يقبضون على حد الوعد، ويغرسونه سارية في ساحة المخيم· أقف أمام السارية، لا أجثو، ولا أدمع· أتطلع مديدا إلى منتهاها غائبا في جبين السماء· السماء تدمع على فرحي·
على حواف الحلم أركض، أسابق ضحكات أطفال يمرون بي، يتهامسون، يشيرون إلى الغريب الذي ينظر إليهم بفرح طفولي كفرحهم· يتحدثون عني: أشعرني واحدا منهم، صرت طفلاً، مهراً خفيفا سريعا ينطلقون به كبرق الابتسام، مسيحا جديدا طالعا لهم للتو من المهد، يمتطي ظهر براق، يدنو إليهم، يحملهم ويطير·
لا يا سيد الشعر ''الوطن أجمل من الطريق إليه'' ومن كل المدن القصية· أنقى من كل عفر التيه، وانكسار البوصلة، ودوران طير البيداء على ذيله· هو اللحظة، لحظتي، كمال الوجود وانتظام الكون، كله ينصهر في، وأنا أداعب طفلتين في مراييل المدرسة، تحملان على الظهر حقيبة الكتب، ومستقبلا يضع قدمه على ظهر الحاضر ويصعد في الغيم· تضحك الملاكان، أضحك، تلوحان بيدين صغيرتين، ألوح بيد صغيرة، تمضيان··· لا أمضي· تبقيان في عين قلبي· أنا ابن هذا المخيم أيتها الملاكان، مثلكما· أنا الآن في عمركما، صغرت ألف عام فجأة· بخطوتي الأولى هنا، تعمدت بطهركما، وتحممت بضحكات الخجل الصغيرة· خلعتن كل ما كان علي من أقنعة، فصرت ملاكاً كما أنتما، صرت بكما أناي كما كنت دوما أريد·
نمشي في انحناءات المخيم· خربشات الجدران أنا كتبتها، والتفافات الأزقة أنا رسمتها وعبرتها· والهواء هنا، كل الهواء، أنا نفخته واستنشقته· أعب الآن منه وفيه حتى الارتعاش، وأطفو عليه· أطير، أطير، أحلق فوق المخيم، أتحسسه بعيوني، أتلمسه غصنا غصنا، وأحضنه بيتا بيتا، وأنثر على الوجوه المطلة من الشبابيك البسيطة عشقا عشقا· ينبت لي جناحان، أفردهما يمينا ويساراً، يهبط سلام ظل على المخيم: تنشق السماء ويقرأ نبي ما ''سورة العائد'': ولد عائد، ولد من آلاف الأولاد·
يوم جاءت أمي وأبي وستي وسيدي وكل أقاربي إليك يا أمنا الكبيرة، كانوا جميعا عرايا من قراهم، ومن سلال خضرواتهم· غرقوا في الصفيح وفي الدموع· ويوم ولدت مسحت زغاريد الأمهات الدموع، وتلألأت على الصفيح حروف من وهج· أعود إليك اليوم من آخر نقطة في العالم وصل إليها وهج حروف الدهيشة· في يدي ضمة حب، وفي جسدي عناق يحترق· أخرج من جيبي إعلان غرور الحب الشبق وأهتف به: الدهيشة مركز الكون وقبلة العالم!
دعني يا صديق الحرف المغترب أرتشف ارتشافة الحب البريء الأول· دعني كما أنا الآن أتمرغ ببراءتي وسذاجتي الأولية· أغرق فيها آتيا من صميم العناد··· لا أريد أن أصحو· تتبسم على سذاجتي وتقول ستكتشف الكثير يا صديقي، وينطفئ هذا التوقد· لا أسمعك· أضع يدي على فمك· أهمس لك، لا أريد أن أكتشف ذلك الكثير، لا تفسد وصلتي الصوفية· دعني أتدثر بهذا الوله اللذيذ· لكم كنت كتبت بحزن على بوابات المدن الكثيرة وأنا أغادرها واحدة واحدة: مدينة جميلة، ناسها طيبون، ونهرها رائق، نساؤها يقطرن ندى، لكن ليست مدينتي···، كنت أكتب على بوابة كل مدينة، شكراً، ووداعاً، فأنا رجل بلا مدينة· اليوم يا صديقي أصبحت ولدا كبيرا وصارت عندي مدينة أكبر· صار عندي ولي أجمل المدن·
خمسون عاماً عدها خالد الصيفي المقيم في هذا المخيم منذ ولد· كان جاء من ''الولجة'' التي أبيدت وصار أهلها لاجئين هنا في الدهيشة· خمسون عاماً يحمل خالد على كتفيه عنقاء المخيم· يقول: هنا في هذا المخيم نربي المستحيلات· عندما جاءه اللاجئون عام 1948 ثم عام 1967 كانوا قد جُردوا من كل شيء، إلا الحزن· الآن ما عاد الحزن إلا تاريخاً· صار الإصرار زيتهم وزعترهم اليومي· صاروا أغنياء بأغنية الح