حصل يوم الخميس الماضي الثالث عشر من شهر أكتوبر الجاري، الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر -صاحب المقولة الشهيرة ''تبدو الحياة أكثر غموضاً والتباساً مما تصورها لنا الدراما''- على جائزة نوبل للآداب لعام ·2005 وفي تصريح إعلامي له، عبر الكاتب عن ردة فعله الأولى إزاء سماعه خبر فوزه قائلاً: لقد فوجئت بالخبر إلى حد الارتباك· ولشد ما انفعالي به قويا، لكوني لم أفكر في نيلها ولم أتوقع الفوز بها يوماً''· هذا وقد عرف هارولد بنتر، الذي ناهز عمره الخامسة والسبعين، بأشهر مسرحياته ''حفل عيد الميلاد''، ''الوكيل'' و''العودة إلى البيت'' وهي جميعها من أعماله التي كتبها خلال الفترة الممتدة بين 1957-·1964 وما من صفات دفعت النقاد إلى تصنيف تلك المسرحيات على أنها مسرحيات ''بنترية'' إلا لما اتسمت به من وحشية وكوميديا سوداء حاقدة طريفة ولحظات صمت كثيف ثقيل الوطء، هي بعض السمات الرئيسية التي وسمت أسلوب كتابة بنتر منذ بواكير تفتحه وسيرته المسرحية، التي امتدت لاحقاً إلى نصف قرن كامل، نال الجائزة تقديراً لها·
أما مسيرة هارولد بنتر خلال السنوات الأخيرة الماضية، فلم تقتصر على أنشطة الكتابة والإخراج والتمثيل المسرحي فحسب، إنما تجاوزت مجال الكتابة والنشاط الإبداعي الأدبي الفني، إلى حقل النشاط السياسي المباشر، إذ لا يزال صوته من أقوى الأصوات المدافعة عن حقوق الإنسان ومناهضة الغزو الأميركي-البريطاني للعراق ومناصرة الشعب الفلسطيني· وعلى إثر تشخيص حالته واكتشاف إصابته بسرطان المريء في شهر فبراير من عام ،2001 قرر بنتر التوقف عن الكتابة المسرحية، إلا أنه قرر مواصلة نشاطه السياسي وكتابة الشعر· وفي تصريح بهذا المعنى لهيئة الإذاعة البريطانية، قال بنتر ''لقد كتبت حتى الآن 29 مسرحية، وأعتقد أن ذلك أكثر من كاف، وأن العالم قد شبع من مسرحياتي''· وكم كانت فرحة عشاق بنتر ومسرحه كبيرة لدى بث إذاعة الـ''بي· بي· سي·'' عمله الإذاعي ''أصوات'' الذي امتد لنصف ساعة، احتفالاً بعيد ميلاده يوم الاثنين الموافق 10 أكتوبر الجاري· وكان العمل الذي بث عبارة عن ''كولاج'' إذاعي تمت فيه إعادة إنتاج وإخراج خمس من مسرحياته الأخيرة· وهذه الأعمال هي عبارة عن كتابات سياسية قصيرة، حلت فيها النبرة السياسية المباشرة، محل طابعه المسرحي المعروف، المسكون بالهواجس والرعب الكوني الهلامي الغامض، إذ تناول نوعاً جديداً ومحدداً من الخوف، هو الارتعاش من جرائم التعذيب والقهر الممارس على الإنسان·
إبان الحرب العالمية الثانية، كان قد جرى إخلاء هارولد بنتر وعائلته اليهودية من مدينة لندن، وهي الحادثة التي عبر عنها الكاتب بقوله: ''لقد كانت حياتي في برزخ من الانتقال والتجوال والترحال المستمر، وكان الأمر كله بالنسبة لي مربكا للغاية· فأن تكون طفلاً يعيش في أرض المستنقعات الملحية، تخرج من لندن وتعود إليها بين الفينة والأخرى، تهتز روحك وجسدك لهدير المدافع وانفجار القنابل المدوية، وتغشى أذنيك أصوات الصواريخ، ويتكرر إخلاؤك وعودتك ذهاباً وإياباً إلى المكان ذاته، وما بين كل ذلك بدا لي شيئاً من اللامعقول والدهشة المرعبة· وأسأل نفسي كثيراً: هل كنت في ذاك العالم لحظتها، أم أنه محض الخيال؟''· ومما لا شك فيه أن تلك اللحظة الحياتية، قد تركت أثراً عميقاً في نفس بنتر وأعماله وإنتاجه الفني الأدبي·
ومما يذكر في السيرة الأدبية لهارولد بنتر، أن الصحافة الأدبية الفنية، كانت قد أسرفت واشتطت كثيراً في رفض مسرحيته الأولى ''حفل عيد الميلاد'' لدرجة أن إحدى الصحف وصفتها بأنها ''مجرد هذيان مخبول''! لكن وعلى إثر نجاح مسرحيته الثانية ''الوكيل'' في عام ،1959 بدا واضحاً أن الجمهور قد استساغ أسلوب بنتر في الكتابة، وشرع في الاستمتاع برؤية أشباح الإثارة الخفية غير المنظورة، والتي تحتشد بها مسرحياته المسكونة بالرعب من المجهول·
كما يعرف عن عالم بنتر المسرحي والأدبي أنه عالم بين ·· بين، ربما تكون قد وقعت فيه الأحداث وعاشت فيه الشخصيات أو لم تقع ولم تعش! من الأمثلة على ذلك مسرحيته ''الأرض الحرام'' ،1974 التي لا يستطيع أن يجزم فيها أحد، بما إذا كانت قد نشأت علاقة غرامية ما، بين المضيف وزوجة زائره الشاعر· ولا يخرج كل من يشاهد أو يقرأ المسرحية، إلا باستنتاج واحد هو ''أن كل بنات حواء مدخرات بدرجة ما، إلى يوم خريفي ماطر''! ومن رأي الناقد جون جوير أن تلك النزعة التحريرية القاسية التي اتسمت بها معظم أعمال بنتر وكتاباته المسرحية، قد فرخت عدداً من الكتاب والأصوات المسرحية، التي نهجت نهجه في التأليف والإخراج والتمثيل· كما جرى الاتفاق عموماً على أن الأسلوب الخاص المميز لكتابة مؤلفين من أمثال ديفيد مامي وسام شيبارد، لا يمكن النظر إليه بأية حال من الأحوال، بعيداً عن ظلال بنتر وتأثيراته الواضحة التي لا تخطئها العين عليهما· إلى ذلك يشكك ناقد آخر هو ديفيد هير، في أنه ما كان لمونتي بيثون أن يوجد في عالم التأليف والكتابة أصلاً، لولا وجود كاتب مثل هارولد بنتر·
و