استطاعت تركيا بفضل مساعدة بريطانيا (أو بالأحرى الولايات المتحدة) الفوز بالدخول إلى مفاوضات العضوية الكاملة مع الاتحاد الأوروبي· وهذا الانتصار الذي عملتْ له تركيا سنواتٍ وسنوات له حدودٌ طبعاً بقدْر ما لهُ من آفاق· حدودُهُ تتمثل في طول المدة التي تستغرقُها المفاوضات على العضوية الكاملة: عشر سنوات! وحدودُهُ التشكيك من جانب دولٍ أوروبيةٍ عديدة في طليعتها فرنسا(!) في إمكان انتهاء المفاوضات بالعضوية· أمّا الآفاقُ فبعضُها مُدّعى أو مأمول، وبعضُها الآخَر تحقّق أو هو في طريقه لذلك·
أولُ المتحقّق وأَهمُّهُ: تغيير وجهة تركيا، من دولةٍ شرقيةٍ وعسكرية الطابع، إلى أُخرى أوروبية أو غربية حديثة· والأمر الأول ما بدأ اليومَ، ولا مع الدخول في المفاوضات مع أوروبا قبل ثماني سنوات· إنما بدأ بدخول تركيا في حلف الأطلسي عشية نشوب الحرب الباردة أواخرَ الأربعينيات· وقد ترتبت على هذا الدخول تغييراتٌ استراتيجيةٌ كبرى أهمُّها تحوُّلُ تركيا إلى دولة مواجهة على حدود الاتحاد السوفييتي، مما رفع من قيمة موقعها من جهة، وعرَّضها لمخاطر من جهةٍ ثانية· وعلينا أن لا ننسى أن تركيا شاركت عسكرياً في كل مواجهات حلف الأطلسي: من الحرب الكورية عام 1951 وحتى حرب أفغانستان عام 2001/·2002 بيد أنَّ الدور البارز للعسكريين الأتراك في السياسات الداخلية خلال عقود الحرب الباردة، عرّض الدولة الوطنية التركية لخضّاتٍ وتعطيلات للدستور وللنظام ذي الطابع الديمقراطي، والذي تحول لأكثر من عقدٍ في ما بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إلى نظامٍ عسكري، استتر حيناً بالعلمانية، وأحياناً بضرورات الانتظام الداخلي والاستقرار· وقد جادلْتُ المستشرق المشهور برنارد لويس، المختصّ بالدراسات العثمانية وصاحب كتاب: ظهور تركيا الحديثة(1955)، في مبررات تمييزه للحداثة التركية عن الحداثة العربية؛ مع أنّ العسكريين الأتراك أدوا أدواراً مشابهةً لأدوار العسكريين العرب في السياسات الداخلية منذ الأربعينيات من القرن الماضي؛ فسلَّم أولاً بواقعة التدخل العسكري في النظام، لكنه ذكر أنه كان يجري أبحاثاً في اسطنبول وأنقرة عام 1949/1950 عندما جرت انتخاباتٌ نيابيةٌ في تركيا انتقلت بمقتضاها السلطة من حزبٍ إلى حزب؛ في حين كانت الأقطار العربية القليلة ذات الأنظمة الانتخابية تتجه لتسليم السلطة كلياً للعسكريين، وأحزابهم ذات الاتجاه الأحادي· والواقع أنّ ''تغيير الوجهة'' الذي تضمَّن خياراً استراتيجياً هو الانضمام للغرب الأطلسي والرأسمالي في الحرب الباردة، أرسى استقراراً قوياً في تركيا حمى وحدتَها الداخلية من التلاعُب بسبب الأقليتين الكبيرتين: الكردية بالدرجة الأولى، والعلوية بالدرجة الثانية· فلولا الحمايةُ الغربية التي تضمنت مظلةً أطلسيةً من جهة، ومساعدات تنموية كبيرة من جهةٍ ثانية، لما أمكن ضمانُ الاستقرار الداخلي، رغم قوة العسكر، ولكان من الممكن- بداعي حفظ الوحدة الوطنية- أن تؤول تركيا إلى نظامٍ مثل النظام العراقي أو السوري أو الجزائري· ولا شكَّ أنّ نظام الضبط والربط أثَّر في شعبية النظام في الخمسينيات والستينيات على الخصوص؛ وبخاصةٍ انكشافه من الناحية الرمزية بسبب العلمانية العنيفة والمعاداة السخيفة أحياناً للتقاليد الإسلامية· لكنّ الغرب لم يدع تركيا تسقط أو تتضعضع· فالعلاقةُ الخاصة بأوروبا- وليس بالولايات المتحدة فقط- بدأت منذ الخمسينيات، وقد أتاحت للأتراك ملايين فُرَص العمل، وتضاؤل القيود على التصدير لذلك العالم المتقدم في عقود نهوضه العظيمة بعد الحرب العالمية الثانية·
(1955-1975)· ومع قيام الثورة الإسلامية في إيران، وتخليد الأنظمة الشمولية العربية، واتجاه الاتحاد السوفييتي للذبول والتفكك في النصف الثاني من الثمانينيات، اعتبر الغرب الأميركي والأوروبي كلاً من إسرائيل وتركيا ركيزتي الاستقرار والديمقراطية بمنطقة الشرق الأوسط· ولذلك فقد أمكن بالضغوط من جهة، وبالتجاوب من جهةٍ ثانية (ظاهرة أوزال) التخلص من الثوران الكردي تدريجياً، وتخفيض قبضة العسكر على النظام السياسي بالتدريج أيضاً· فازدادت شعبية النظام بالداخل، وتغلَّبت الاعتبارات التنمويةُ والسياسية على اعتبارات الضبط والربط· ومع ثبات التوجُّه الاستراتيجي ونجاحه، بدأت النخبة التركية تفكّر بوعيٍ في الخيارات المستقبلية، ودخلت البلاد في مرحلة ''التأهُّل'' للانضمام الكامل إلى الاتحاد الأوروبي، رغم بروز المخاوف لدى أوروبا، منذ أواسط التسعينيات، من صعود الإسلام السياسي، ومن ضخامة أعداد الشعب التركي وتهديداته لواحة الرخاء الأوروبية·
ركّز الأوروبيون المتشككون على المتغيّرات في تركيا: بقايا الحرب الباردة ونظام الضبط والربط من جهة، وصعود الإسلام السياسي من جهةٍ ثانية· وقد اختلفت معهم الولايات المتحدة في تقدير الأمرين· في الأمر الأول رأت واشنطن أنّ النظام التركي قابلٌ للتطور والتطوير، ومن المشروع ممارسة الضغوط وعدم اليأس أو الاحتجاج بوجود العسكريين في واجهة النظام· أمّا