في سابقة غير مفهومة، وتعد طارئة وجديدة تماماً على ''التقاليد'' العربية فيما يتعلق بمصائر كبار المسؤولين ونهاياتهم الخاصة، أعلنت في دمشق عصر الأربعاء الماضي وفاة وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان منتحراً في مكتبه! وفيما لم تكشف السلطات السورية عن تفاصيل العملية وظروفها وملابساتها الحقيقية، فإن تراجيدا رحيل اللواء كنعان أثارت الكثير من علامات التعجب والاستفهام الحائرة، سواء لجهة الحادث ذاته (دوافعه وخلفياته وظروفه··)، أم فيما يتعلق بتداعياته المحتملة على الوضع السوري وآفاقه في المستقبل المنظور·· حيث تزداد الضغوط الأميركية الرامية إلى عزل النظام السوري وإضعافه، وفي وقت ينتظر أن تُعلن نتائج التحقيق الدولي حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري·
وجاء الإعلان عن وفاة اللواء كنعان منتحرا، لتشكل مفاجأة للكثيرين؛ فهو وفقا لما يقول عارفوه، عسكري مقدام وصاحب شخصية قوية ومتوازنة، ويتمتع بوضع معنوي قوي داخل النظام القائم·
بيد أن اسم اللواء غازي كنعان تردد في تقارير إعلامية لبنانية حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، خاصة بعد أن جمدت وزارة الخزانة الأميركية، مطلع يوليو الماضي، أرصدته المالية المفترضة، وبعد أن استمع إليه رئيس فريق التحقيق الدولي ديتليف ميليس، مع سبعة مسؤولين سوريين آخرين، يوم 21 من سبتمبر المنصرم· وكان لقاء اللواء كنعان مع ميليس موضوعا لتقرير بثته إحدى محطات التلفزة اللبنانية مساء الحادي عشر من أكتوبر الجاري، أفادت فيه أن كنعان اعترف للمحقق الدولي بكونه ''شارك في الفساد والرشاوى في لبنان، ولكنها كانت موقعة من قبل الرئيس الحريري''، مما أثار ''استياء وشعوراً بالألم'' لدى الوزير السوري، فتحدث صباح اليوم التالي إلى إحدى محطات الإذاعة اللبنانية، وأثنى على الدور السوري ''في وحدة وتحرير لبنان خلال وقت كان ذلك مستحيلا من دون سوريا''، وهاجم محطة التلفزيون المذكورة، واصفا تقريرها بأنه ''عار من الصحة ومدسوس جملة وتفصيلا''، ثم طلب من مقدمة البرنامج الإذاعي أن تعطي تصريحه لمحطات التلفزيون اللبنانية ولكل وسائل الإعلام ''لأنني أعتقد أن هذا هو التصريح الأخير الذي سأعطيه''· وهنا عند هذه العبارة التي قالها اللواء كنعان ثم ''انتحر'' بعد أقل من ساعتين، توقف كثيرون، ألمح بعضهم إلى أن كنعان كان يستشعر قرب موعد تصفيته، بينما اعتبر البعض الآخر أنها كلمات من فم رجل اتخذ قراراً بوضع حد لحياته وأراد الإدلاء بوصيته أو تصريحه الأخير!
لم يكن اللواء غازي كنعان رجلا عادياً خلال مرحلة ربع القرن الأخيرة من تاريخ سوريا المعاصرة وأحداثها، بل كان الحاكم الفعلي لجارتها لبنان حتى سماه اللبنانيون ''صانع الشخصيات'' و''المندوب السوري السامي في بيروت'' و''الحاكم بأمره''، وذلك خلال الفترة بين عام 1982 حينما تم تعيينه رئيسا لفرع جهاز الأمن والاستطلاع التابع للقوات السورية العاملة في لبنان، وبين عام 2002 تاريخ عودته إلى دمشق عندما استدعي لتولي قيادة شعبة الأمن السياسي في وزارة الداخلية السورية· وخلال وجوده في لبنان اكتسب كنعان خبرة سياسية ومعرفة وافية بخفايا ملفات السياسة اللبنانية وتفاصيلها، وأثبت قدرة على إدارة الدور السوري في لبنان بكفاءة؛ فقد تولى مهماته هناك إثر الاجتياح الإسرائيلي الذي أخرج الوجود السوري من بيروت ومن الجبل سنة ،1982 لكنه نجح بالتعاون مع حلفائه من اللبنانيين والفلسطينيين في استعادة بيروت في فبراير ،1984 وفي إسقاط اتفاق 17 مايو 1983 بين لبنان وإسرائيل والذي أنجز تحت إشراف أميركي، كما أجرى مفاوضات شهيرة مع القائد الكتائبي سمير جعجع، ونجح في جر إيلي حبيقة من موقعه الإسرائيلي إلى الموقع السوري· وفي أعقاب اتفاق الطائف سنة 1989 أنهى تمرد الجنرال ميشال عون وأخرجه من لبنان، وأصبح له شأن محوري في حل الميليشيات اللبنانية وفي إعلاء شأن الجيش اللبناني· وإلى ذلك طالما تحدثت الصحافة عن دوره في دعم المقاومة و''حزب الله''، وفي إيجاد صيغ العلاقة بين هذا الحزب وبين الدولة اللبنانية، كما أنه من نفذ رغبة الرئيس الراحل حافظ الأسد في التمديد للرئيس إلياس الهراوي عام ،1995 ووضع قوانين الانتخابات اللبنانية بعد عام ،1992 وتولى التحضير لانتخاب إيميل لحود خلفاً للهراوي عام ·1998
وبعد انتقاله نهاية عام 2002 إلى منصبه على رأس شعبة الأمن السياسي، عمل على تقوية الشعبة، فبرز حضورها بقوة في الساحة السورية، ومن موقعه الجديد واصل مسؤولياته في التعاون الأمني مع تركيا، إذ كان أحد الموقعين على ''اتفاق أضنا'' في أكتوبر 1998 بين الدولتين، وبعد توليه منصب وزير الداخلية في سبتمبر 2004 أصبح أحد أقوى وزراء الداخلية في الحكومات السورية المتعاقبة·
ولد غازي كنعان في بلدة بحمرا بجوار القرداحة في محافظة اللاذقية عام 1942 وكشأن معظم أبناء جيله ومن عناصر النخبة الحاكمة الآن، حصل على البكلوريا والتحق بالجيش، وفي الوقت ذاته درس في جامعة دمشق لي