تبدو الأمور في العراق غاية في الصعوبة والاحتقان عشية التصويت على الدستور يوم غد السبت· فالبلد مازال نهباً للاقتتال والعنف الطائفي، فضلا عن تدهور الاقتصاد، وانهيار الخدمات الأساسية للسكان· كما أن نجاح الاستفتاء لا يمنح أية ضمانة لتحسين الأوضاع، وإعادة الأمور إلى جادة الصواب· لكن ماذا يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة حتى تخفف من حجم الكارثة؟ لو كانت الظروف أفضل لأمكننا القول إن ما يحدث اليوم في العراق هو أشبه بما عاشته جنوب إفريقيا في عام 1994 حيث انتقل الحكم من أيدي الأقلية إلى أيدي الأغلبية عن طريق الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، واعتماد دستور ديمقراطي جديد· لكن مع الأسف يختلف الوضع بين البلدين لعدة أسباب·
في جنوب إفريقيا التزم قادة الأقلية البيضاء التي استحوذت على الحكم في السابق بالعملية السياسية، فدخلت في مفاوضات مع الطرف الآخر وتمكنت في الأخير من حماية مصالحها الأساسية· وبالطبع ليس الأمر كذلك في العراق· وفي جنوب إفريقيا أيضاً كشفت القيادة الجديدة الصاعدة بين 1990 و1994 عن حس سياسي رفيع دفعها إلى تفهم مخاوف الطرف الآخر· وهو ما لا يحدث حالياً في العراق حيث تدفع الأغلبية الشيعية بمساندة حلفائها الأكراد بقوة تجاه الدستور الحالي دون أن يهتموا كثيرا بالتحفظات التي أثارها السنة، رغم تضمنه لمواد مازالت محط خلاف شديد، لا سيما تلك المتعلقة بتفويض سلطات واسعة للمحافظات بحيث لا يجمعها سوى نظام فيدرالي فضفاض· وقد أثارت تلك السلطات الواسعة التي أنيطت بالمحافظات مخاوف السنة حول تماسك العراق ووحدته· والحقيقة أن مثل هذه الفيدرالية تمهد الطريق أمام خلق نموذج شبيه بما حصل في البوسنة حيث ظهرت كيانات صغيرة ذات حدود منفصلة ترافقت مع اندلاع التطهير العرقي والطائفي· لذا ليس غريبا أن يحذر بعض المحللين من أن إصرار الشيعة والأكراد على الدستور سيضع العراق على فوهة الحرب الأهلية·
بالإضافة إلى ذلك يشير الفشل الحالي في تهدئة الأوضاع قبل عملية التصويت على الدستور إلى أنه طيلة الفترة السابقة لم يشهد العراق حواراً وطنياً هادئاً ورصيناً تناقش فيه الأطراف المختلفة إيجابيات الدستور وسلبياته· والنتيجة أنه مهما كانت حصيلة التصويت على الدستور، فإن الطرف الخاسر لن يملك من الأسباب والحوافز الداخلية ما يدفعه للتسليم بالنتيجة والإقرار بها· فإذا أخفق السنة في إلغاء الدستور، فإنهم على الأرجح سيرفضون النتائج، وسيحصلون على دعم الموالين لهم في الدول العربية مانحين المزيد من الزخم للمتمردين· أما إذا فشل الشيعة والأكراد في مساعيهم لإقرار الدستور، فليس مستبعداً أن يتجه الأكراد ومعهم بعض الشيعة نحو خلق كيانات مستقلة في مناطقهم، ما سيفضي في النهاية إلى تفكيك البلد وتمزيقه· وفي كلتا الحالتين يبرز خطر حقيقي يهدد بتصعيد الخلاف إلى حرب أهلية شاملة، خصوصاً إذا ما استمر التنافر بين الأطراف المختلفة في ظل غياب حوار وطني يخرج بتسوية مرضية للجميع· والأكثر من ذلك أن الحرب الأهلية في حال اندلاعها لن تقف عند الحدود العراقية، بل سيمتد لهيبها إلى الدول المجاورة ما سيؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة بأسرها·
لكن ما الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة لتفادي حدوث الكارثة في العراق؟ يرى بعض المحللين أن على الولايات المتحدة أن تبقى في العراق للحيلولة دون اندلاع الحرب الأهلية· غير أن مثل هذا الرأي يسيء قراءة السجل الأميركي في العراق طيلة الثلاثين شهراً الماضية التي قضتها فيه كقوة محتلة· فخلال تلك الأشهر تفاقمت حدة التوترات الإثنية والطائفية بشكل ملحوظ، ولم يظهر أي أمل في تحسن الأوضاع· لذا لا يوجد سبب مقنع يدفعنا للاعتقاد بأن بقاء القوات الأميركية في العراق لفترة أطول قد يسهم في التخفيف من حدة تلك التوترات ويبعد شبح الحرب الأهلية المخيم فوق رؤوس العراقيين·
وإذا أصرت الولايات المتحدة على إبقاء قواتها في العراق فمن المرجح أن تلتهب الساحة العراقية بمزيد من العنف الطائفي· لكن في حالة إعلان واشنطن انسحابها الفوري من العراق وإقدامها على ذلك بطريقة منظمة، فمن يدري؟ قد يبقى شبح الحرب ماثلاً، لكن ربما قد يختفي أيضاً· وعلى الأقل لن تجد القوات الأميركية نفسها وسط حرب أهلية قد تحصد المزيد من أرواح الجنود، فضلا عن أن الحرب الأهلية ستفرض على الولايات المتحدة التزاماً أخلاقياً يحتم عليها بذل كافة الجهود لإيقافها· والأكثر من ذلك أنه في حالة رحيل الأميركيين فلن يجد أي طرف عراقي السبيل إلى التمدد السياسي كما فعل الأكراد والشيعة تحت الحماية الخاطئة للأميركيين، وهي فرصة أمام العراقيين كي يدركوا، كما أدرك قبلهم سكان جنوب إفريقيا، أنه لا بديل لهم عن الحوار والتوصل إلى صيغة للعيش المشترك إذا أرادوا أن يجنبوا بلدهم ويلات الحرب والدمار· لكن هل يمكن فعلا التوصل إلى تلك الصيغة في العراق؟ لم لا· فمن كان يتوقع أنه في 1990 سينجح السكان البيض إلى جانب مواطنيهم السود في التوصل إلى حل لأزمتهم؟ وإذا ما شعر العراقيون بافتقا