لا يمكن لأي امرئ أن يمضي برجليه صوب المستقبل، دون أن يحسب خطواته بالأمس· ومن المستحيل أن تتجه أنظار الإنسان نحو الأمام، دون أن يُسجِّل في ذاكرته، ما رآه بناظريه، أو سمعه بأذنيه، أو قرأه بعينيه· كذلك المجتمعات، لا يمكن أن تحقق إنجازات، أو تبني حضارات، إذا لم تُدوِّن تاريخها، وتعتبرْ من قصص ماضيها، وتُدافع بضراوة عن حقوقها·
إلى اليوم، ما زالت مجتمعاتنا العربية، تغسل أوجاعها عند أقرب منعطف، وترمي بمصائبها عند أول مجرى نهر يعترض طريقها، دون أن تحاول العزف على أوتار مآسيها، لتسترد ما سُلب منها، وهذا للأسف، نابع من نظرة الفرد العربي السلبية لنفسه، تتبعها النظرة الدونية لسلطة بلاده له، وهو ما انعكس تلقائيا على نظرة الغرب إلينا، في تقييمهم الرخيص لضحايانا، الذين يُقتلون يومياً في رقع متفرقة بعالمنا العربي والإسلامي·
في السنوات الأخيرة، مع استعار موجة الإرهاب في العالم بأسره، صرنا نسمع عن آلاف القضايا، يرفعها أوروبيون وأميركيون في المحاكم، ضد رجال أعمال، أو مؤسسات، أو مسؤولين عرب، ومطالبتهم بتعويضات ضخمة، عن أقاربهم الذين قتلوا على أراضينا· في الوقت الذي لا نجد صوتاً عربياً يسأل عن دماء قتلانا! فهل دماؤهم أرقى من دمائنا؟! هل أهلوهم أعز من أهلينا؟! يجد المرء نفسه في نهاية الأمر، يخرج بنتيجة قاسية؛ إن الإنسان إذا لم يُعطِ لنفسه مكانتها، وإذا لم ترفع سلطة بلاده من قدره، فلن تكون له منزلة عليا في نظر الأجنبي!
لقد نجح اليهود في اللعب على أوتار ''الهولوكست''، لانتزاع الكثير من الامتيازات، وما زالوا إلى اليوم يلوحون بهذه الورقة، في وجه كل من يرميهم بالعنصرية، أو يقترب من محيطهم· في الوقت الذي يستمر الإنسان العربي في دفن ضحاياه، وفي الزعيق والنحيب على أحبائه الذين يفقدهم، مكملاً طريقه في صمت·
إن قيمة الإنسان العربي، يجب أن تنمو في تربة أقطارنا العربية أولا، ومن ثمَّ يمكن تمريرها للغرب، بأن يصنعها بسواعده الفتية، أن تُدافع السلطات العربية عن أمن مواطنيها· أن تؤمن بحقهم في تذوّق العدالة الاجتماعية، أن ترسل لهم إشارات ضمنية، أنهم النبراس القادم الذي يضيء كل المنعطفات حالكة السواد، والأهم أن تسعى مؤسسات حقوق الإنسان الحكومية والأهلية، إلى توثيق أعداد الضحايا من المدنيين، وتسجيل ممتلكاتهم التي ضاعت منهم في فورة الموجة العالية التي طغت باسم التحضّـر والحرية وجلب الديمقراطية التي حملها إلينا الغربيون على فوهات مدافعهم!
لقد اندهشتُ حين قرأت، أن اسم صدام حسين، قد تم محوه من المناهج الدراسية في العراق، وأنها لم تعد تتطرق إلى تحليل مرحلة حكمه، مما جعل بعض المدرسين هناك، يبدون تذمرهم من إسقاط نصف قرن من تاريخ العراق·
كيف يمكن أن نبني أجيالاً تعرف مواقع أقدامها، وهي تجهل كل شيء عن ماضيها! إن توثيق تاريخنا الدموي، سواء الذي تمَّ على يد بعض من الحكام والزعماء العرب، أو ممن اقتحموا أرضنا من الغرباء، سيجعل الأجيال القادمة تنصت لكل ما يقع من حولها، وتتنبه لما يجري من خلفها· أما الذين يبررون ردم مخازي التاريخ، بحجة إبعاد الأجيال القادمة، عن نغمة التطرّف والعنف، فهو قول مبني على باطل، لأن الأمم التي لا تقف لحظة حداد صادقة على ضحاياها، وتغضَّ الطرف عمّا وقع لها، لن تُـحترم آدميتها يوماً!