منذ أواخر القرن التاسع أطلق إبراهيم اليازجي إنذاره الشهير للأمة ''تنبهوا واستفيقوا أيها العرب'' واليازجي مسيحي لبناني من أصل سوري حمصي، كان واحداً من رواد النهضة العربية، الذين أعتقد أنهم سيندهشون لو أعادهم الله لحظة إلى الحياة فرؤوا حال أمتهم اليوم وقد بات أسوأ بكثير مما كانت عليه يوم طمى الخطب وغاصت الركب في الدماء التي أهرقها الفرنسيون في المغرب والجزائر وتونس، ثم في سوريا ولبنان مطلع القرن العشرين، فضلاً عن تلك التي أراقها الإنجليز في مصر والسودان والعراق وفلسطين والخليج العربي، أو التي أهرقها الإيطاليون في ليبيا· وأحسب أن رواد النهضة والتحرير والاستقلال سيعتبرون أيامهم نعيماً بالقياس إلى الجحيم الذي يعيش فيه العراق اليوم أو إلى السعير الذي يشتد على الفلسطينيين، ففي تلك الأيام كان المستعمرون يحترمون المقاومة الوطنية على الرغم من أنهم كانوا يلاحقون رجالها ونساءها ويقتلونهم أو يأسرونهم، ويحاكمونهم ولكنهم كانوا يقرون في دواخلهم بشرعية ما يفعله المقاومون، وبوسع القارئ أن يتأمل المعاني الحضارية في محاكمة المجاهد الكبير إبراهيم هنانو في مارس 1922 وكان قائداً كبيراً في المقاومة الوطنية السورية للاحتلال الفرنسي، وقد طالب النائب العام الفرنسي المحكمة بإعدامه وقال ''لو أن لهنانو سبعة رؤوس لطلبت قطعها جميعاً''· لكن القاضي الفرنسي أطلق سراح هنانو معتبراً ثورته ثورة سياسية مشروعة·
وتستدعي الذاكرة بالمقابل صورة البطل عمر المختار الذي أعدمه الإيطاليون بعد محاكمة صورية، ولكننا نقرأ في مذكرات غراتسياني الذي قدمه إلى الموت، وصفه النبيل لخصمه المختار وكان وقوعه في يده غنيمة كبرى، وقد جسد المخرج السوري مصطفى العقاد احترام غراتسياني لخصمه البطل المقاوم أجمل تجسيد في فيلمه الشهير عن عمر المختار، ليمد جسراً حضارياً مع الغد الذي تنبأ أحمد شوقي بخطورة امتلائه بالحقد والبغضاء جراء هذا الإجرام الأوروبي المتصاعد ضد العرب والمسلمين·
وسؤال شوقي ما يزال مطروحاً على القادة والسياسيين الغربيين، الذين بوسعهم أن يحققوا كل ما يريدون من مصالح الغرب في بلادنا عبر علاقات ودية عادلة، والعرب مشهورون بالتسامح والعفو الذي هو قيمة دينية كبرى في مسيحيتهم وإسلامهم، وهو سر تناسيهم تلك الحقب المظلمة السوداء من تاريخ علاقاتهم مع الغرب، فقد نهضت الأجيال العربية الجديدة من ركام الماضي وأحقاده لتبني على الفور علاقات صداقة ومودة مع كل دول الغرب التي كانت تحتل بلادهم، ولم تحمِّل الأجيالُ العربية الجديدة أقرانَها من الأجيال الغربية الجديدة أية مسؤولية عما فعل آباؤهم، وما اقترفوا من جرائم بحق شعوبنا· وقد رسخ هذا التسامحَ أجدادنا الذين تناسوا قبل قرون جرائم الغرب في الحروب الصليبية، لأنهم من أمة تدعو إلى المحبة والسلام، ولا تحمل الضغائن والأحقاد· ففي الجزائر التي شهدت أقسى أنواع الاستعمار الاستيطاني عبر أكثر من مئة وثلاثين عاماً من العذاب والقسوة، وقدمت مليوني شهيد للحصول على الاستقلال، تجاوز الناس مشاعر العداوة والبغضاء وانتقلوا سريعاً إلى بناء علاقة ودية مع فرنسا، وبوسع الأجيال الفرنسية أن تتأمل عظمة معاني استقبال الجزائريين للرئيس شيراك يوم زار الجزائر، وكذلك فعل شعبنا في سوريا ولبنان حين سارع لعقد أفضل العلاقات مع فرنسا من أول يوم بعد الاستقلال، وكان المصريون قد نظروا إلى المعاني الإيجابية التي بقيت من حملة نابليون على مصر والشام· ولم يعد أحد يتذكر المآسي التي أوقعها جيش نابليون ضد الشعب المصري إلا لتمجيد المقاومة البطولية النبيلة، كتلك التي جسدها طالب الأزهر السوري الكردي سليمان الحلبي الذي قتل كليبر، وكان الحكم عليه ذروة في الوحشية، فقد أعدم بالخازوق وبالحرق حياً، وقد أحيت مصر وما تزال تحيي ذكراه، وكان أعذب ما كتب عنه تلك الملحمة التلفزيونية التاريخية التي قدمها المؤرخ الدرامي المبدع محفوظ عبدالرحمن ولم يكن هذا التمجيد إذكاء لمشاعر كراهية وحقد، وإنما كان وفاءً لبطولة المقاومة، وكل الشعوب تمجد أبطال مقاومتها وتحتفل بأعياد تحررها واستقلالها· والحديث يطول عن مظاهر ومضامين التسامح العربي والإسلامي مع الغرب رغم كل الجرائم التي ارتكبت باسم نشر الحرية والتقدم والديمقراطية، ولم يكفّر الغرب قط عن هذه الجرائم، بل استمرت القيادات السياسية الغربية في دعم إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني والحقوق العربية·
إن كل ذلك التاريخ الماضي من الصراع، بما فيه من قسوة ومرارة يبدو صغيراً أمام ما يحدث الآن، فقد تمكن أعداء الأمة من تحقيق ما لم يخطر على بال، وهو أن تصبح مقاومة الاحتلال تهمة وجريمة إرهابية، ويصبح المحتل والمعتدي صاحب حق مشروع تطالب دول العالم بدعمه وتمكينه· والخطر أن وسائل إعلام عربية باتت تروج لهذا الخلط المبرمج بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب، وأن بعض النخب باتت تبدي قناعة بأن ما يحدث في العراق مثلاً من عمليات إرهابية هو من صنع المقاومة العراقية، وأخطر من ذلك