المبادرة العربية لتحقيق مصالحة في العراق لا تبدو قابلة للنجاح قبل الانتخابات المقبلة، فلا مجال الآن لإنقاذ العراق عبر مؤتمرات من هذا النوع قد يقال فيها كلام طيب لا يلبث أن يتبخر مع ضوء أول نهار· ولا مفر من انتظار انتخابات ديسمبر القادم التي يمكن أن تسفر عن برلمان أكثر توازناً، إذا شارك فيها من قاطعوا الانتخابات السابقة وتوفرت لها النزاهة الكافية·
وإذا كانت الجامعة العربية جادة هذه المرة في القيام بدورها، فلتركز في العمل لضمان هذه النزاهة بالتعاون مع الأمم المتحدة، خصوصاً بعد محاولة التلاعب التي لم تنجح في شروط الاستفتاء لضمان تمرير مسودة الدستور المختلف عليها· فليس هناك ما يضمن حياد الحكومة الحالية في الانتخابات، وهي التي بلغ انحيازها المذهبي ذروته، وانتهى التحالف الذي قامت على أساسه إلى صدام علني بعد شهور قليلة على تشكيلها، وهذا الصدام هو من النوع الكاشف لكثير قبله تراكم تحت السطح حتى طفح، ومما كشفه أن تحالفاً مصلحياً بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء يصل الآن إلى نهايته مع انقضاء دوافعه وحصول كل من طرفيه على أهم مطالبه وطموحاته في مسودة الدستور·
ولكن الأهم من ذلك هو طريقة رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري في رده على رسالة الرئيس جلال طالباني الاحتجاجية إليه، التي أظهرت ميلاً إلى التعالي لم نكن نعرفه عنه· فقد قال أمام جمع من الصحافيين يوم 2 أكتوبر الجاري إنه ليس لديه وقت للرد ومناقشة مثل هذه الأمور التي وردت في رسالة طالباني التي أعلن عنها في اليوم الأول من الشهر نفسه· ولكنه، في الواقع، رد بشكل ضمني بما يفيد معناه أنه المسؤول عن الجهاز التنفيذي بكامله وأن عليه أعباءً هائلة في العمل من أجل الشعب على نحو لا يترك له وقتاً·
وفي رده هذا، أكد ضمنياً سلامة بعض ما أثاره طالباني في رسالته، وهو أن الجعفري يخرق مبدأ المشاركة والتوافق الذي تم الاتفاق عليه بين الكتلتين (الائتلاف الموحد والتحالف الكردستاني) كأساس لعمل مجلس الوزراء· وأورد طالباني 16 ملاحظة محددة تنطوي كل منها على مخالفة لأسس التحالف بين الكتلتين، إضافة إلى منح مجلس الوزراء صلاحيات نظام الحكم بكامله، الذي يشمل أيضاً رئيس الدولة ونوابه والجمعية الوطنية، ثم اختزال المجلس في رئيسه·
ربما لم يقصد رئيس الوزراء الاستئثار بكل شيء، وقد يكون إحساسه الشديد بالمسؤولية دفعه إلى الانغماس في مشكلات لا تنتهي دون أن يستهدف تهميش غيره· ولكن ما حدث فعلياً هو أنه تصرف بطريقة رأى فيها بعض شركائه انفراداً بالسلطة، فضلاً عن أن ضعف أداء حكومته بوجه عام جعلها موضع نقد متزايد ليس فقط داخلياً، ولكن أيضاً على الصعيد الإقليمي بعد أن توسع نفوذ إيران وازداد تغلغلها في عهد هذه الحكومة· وكان طبيعياً أن يحتج طالباني على هذه الطريقة، فهو واحد من عدد قليل من السياسيين العراقيين يتمتعون بمقومات ''كاريزمية'' ولديهم مؤهلات رجل الدولة· ولكن ليس طبيعياً في نظام سياسي يفترض أنه سيكون ديمقراطياً أن يتعامل رئيس الوزراء مع ملاحظات يبديها رئيس الدولة بمثل هذا التعالي، وربما الاستخفاف· وفي مثل هذه الأجواء، لا يمكن لمؤتمر مصالحة وطنية أن ينجح وخصوصاً في وقت تتصاعد فيه التعبئة استعداداً للانتخابات القادمة· ومن الصعب التطلع إلى مصالحة في ظروف تعبئة يسعى فيها كل طرف إلى حشد أنصاره وراءه، بمن فيهم القطاعات الأكثر تشدداً في جمهوره· ففي الصراع الانتخابي تتراجع إمكانات المرونة التي لا غنى لأي مصالحة عنها·
وفضلاً عن ذلك، تموج الساحة السياسية العراقية بتفاعلات شتى استعداداً للانتخابات، وستفرز هذه التفاعلات تحالفات جديدة تصنع خريطة سياسية مختلفة قد تكون أكثر تجاوباً مع جهود المصالحة، خصوصاً أن ''الائتلاف العراقي الموحد'' بدأ في التفكك· وما كان للقوى الرئيسة في هذا الائتلاف أن تأتلف بأي حال إلا لتدخل المرجعية الشيعية التي جمعت فرقاء تفصل بينهم خلافات واسعة· فعلى سبيل المثال لم يكن ''حزب الدعوة'' الذي يقوده الجعفري في وئام في أي وقت مع ''المجلس الأعلى للثورة الإسلامية'' الذي يقوده آل الحكيم، ولا مع ''حزب المؤتمر الوطني'' برئاسة أحمد الجلبي· كما أن هذا الأخير الذي كان يقدم نفسه باعتباره حزباً علمانياً، دفعته مصلحة وقتية إلى العمل لتأسيس (الائتلاف الموحد) مع أحزاب وقوى دينية مذهبية· وضم هذا الائتلاف أيضاً التيار الصدري الذي يختلف مع أطرافه جميعهم، وقد تصاعد، في الأسابيع الأخيرة، صراعه ضد ''المجلس الأعلى للثورة الإسلامية''· وخاض أنصار مقتدى الصدر معارك عنيفة ضد ''ميليشيا'' المجلس الأعلى وأتباعه، حرقوا خلالها مكاتب وإذاعات تابعة لهذا المجلس في عدد من المدن الشيعية، رداً على إحراق مكتب الصدر في النجف· حدث هذا كله، فيما التيار والمجلس هما اثنان من القوى الأربع الأكثر أهمية في ''الائتلاف الموحد'' الذي بات مستحيلاً الحفاظ عليه في الانتخابات المقبلة·
ويوفر تفكك هذا ''الائتلاف''، الذي حصل على أكثر من نصف مقاعد الجمعية الوطنية في انتخابات