لعل من أهم ما يلفت النظر في التصنيف الذي تبناه كل من الجاحظ والشهرستاني للتمييز بين الفضاءات الحضارية في عصرهما (المقال السابق) هو ابتعاد كل منهما عن أية نزعة عنصرية، عرقية أو دينية أو طائفية· لقد اعتمد كل منهما الجانب المعرفي الإبيستيمولوجي أساساً للتمييز بين الشعوب والأمم· وهذا مقياس موضوعي حضاري محايد· الجاحظ نظر إلى طريقة إنتاج المعرفة فجمع العرب والهنود في صنف واحد باعتبار أنهم يعتمدون -حسب رأيه- على مجرد الحدس في التعامل مع الأشياء معرفياً· أما الشهرستاني فقد نظر إلى مصدر المعرفة التي يوظفها الناس في رؤيتهم للعالم فميز بين ''أهل الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل''·
ومع أن الشهرستاني كان متكلماً (والمتكلم بالتعريف هو المدافع عن العقيدة الإسلامية ضد غيرها من العقائد)، وأنه كان أشعري المذهب (أي سنياً سلفياً منفتحاً على الجدل العقلي)، فإنه عرض آراء ''أهل الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل'' بموضوعية وحياد قل نظيرهما في عصره، داخل العالم الإسلامي وخارجه، بل يجب الاعتراف بأننا نفتقدهما في الجدل المذهبي والعقدي والطائفي السائد اليوم·
خصص الشهرستاني كتابه ''الملل والنحل''، إذن، لشرح آراء ومذاهب الشعوب والأمم في عصره مبتدئاً بـ''أهل الديانات'' وفي مقدمتهم الفرق الإسلامية، المتكلمة في ''أصول الدين'' أي في العقيدة الإسلامية، مع نبذة عن ''أهل الفروع (الفقه) المختلفين في الأحكام الشرعية والمسائل الاجتهادية''، لينتقل بعد ذلك إلى عرض معتقدات أهل الكتاب (اليهود والنصارى وفرقهم)، ثم معتقدات ''من له شبهة كتاب'' وهم المجوس والثنوية (وقد صنفهم مع أهل الديانات لأن لديهم ''بعض صحف إبراهيم عليه السلام''، ومعلوم أن القرآن الكريم صنف المجوسية والصابئة كدينين وذكرهما)· بعد ذلك ينتقل إلى ''أهل الأهواء والنحل''، فتحدث عن معتقدات فريق من الصابئة هم صابئة حران ''أصحاب الروحانيات'' (فرع من الهرمسية)، ثم ''أصحاب الهياكل'' (عبدة الكواكب السبعة السيارة بوصفها وسطاء بين الله والناس)، وعبدة ''الأشخاص'' (تماثيل وتشخيصات لتلك الهياكل: الأصنام)· يلي ذلك عرض مفصل للفلسفة والفلاسفة كما كان يؤرخ لهما في عصره والعصور السابقة له (انطلاقا من طاليس إلى فرفوريوس إلى فلاسفة الإسلام، معتمداً على ابن سينا كممثل لهم جميعاً)· يلي ذلك عرض لآراء العرب في الجاهلية، ثم لآراء الهنود·
واضح أن الشهرستاني لم يتبع منهجاً تاريخياً في عرضه لآراء ومذاهب ''أهل العالم'' كما عرفها عصره، بل سلك منهجاً بنيوياً -إذا جاز التعبير- انطلق فيه من إرجاع ''الآراء والمذاهب'' الفكرية إلى الأصل المعرفي الذي تصدر عنه: وهو إما النبوة وبالتالي الدين، وإما العقل وبالتالي الفلسفة والديانات الوثنية· وواضح أن هذه الثنائية -ثنائية دين/ عقل- تتطابق مع ثنائيات أخرى يعبر عنها بألفاظ مختلفة مثل: روح/ مادة، دنيا/ آخرة·· الخ· إنها، وبصورة عامة، تلك الثنائية ''الغريبة'' التي أثارت فضول ذلك الشاب الياباني الذي تحدثنا عنه في مقالة سابقة والتي اعتبرها خاصية لفكر ''الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط'': ثنائية النفس والبدن· وقد لا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن ما ندعوه اليوم بإشكالية الأصالة والمعاصرة، أو التراث والحداثة، تتطابق مع تلك الثنائية، ولا يفصلها عنها سوى عامل التطور، على صعيد المصطلحات والمفاهيم وليس على صعيد المضمون·
على أن ما يجب أن نركز عليه هنا، لكونه ألصق بموضوعنا، أمران اثنان:
الأول هو أن الشهرستاني قد أغفل -وربما كان يجهل- ما وراء الهند من ''ملل ونحل''، من ''فرق وآراء''، وهذا يعني أن الشرق الأقصى لم يكن يدخل في دائرة تفكيره، وذلك علامة على أنه لم يكن له حضور ما في الفضاء الحضاري للثقافة العربية التي عبرت عن طابعها ''العالمي'' من خلال كتاب الشهرستاني وكتب أخرى مماثلة، والتي إن ورد فيها ذكر للصين فإنه لا يتجاوز مجال السلع والتجارة والحكايات الخرافية، خالياً أو يكاد من الإشارة إلى ملل أهلها ونحلهم·
أما الأمر الثاني فهو أن ''الملل والنحل'' التي اهتم بها الشهرستاني هي تلك التي كانت آراؤها تشكل في عصره ''الموروث القديم'' الذي أغنى الثقافة العربية الإسلامية بتنوعه وتداخله، فوجدت فيه ''ما وراء تاريخها''، ومؤطر آفاقها، و''الآخر'' الذي به تتعرف على نفسها··· وفي نظري فإن رسم معالم الفضاء الحضاري للثقافة العربية يجب أن يبدأ من اكتساب تصور واضح بقدر الإمكان عن أنواع حضور هذا ''الموروث القديم'' وتحديد مواقع تواجده في الفضاء الجغرافي الذي استوعبته الحضارة العربية الإسلامية·
لنبدأ أولاً بالفصل في مسألة سبق أن أشار إليها الجاحظ وقررها الشهرستاني وهي ذلك التصنيف الذي عرضنا له في المقال السابق والذي يجعل العرب والهنود يتقاربان على ''مذهب واحد'' في اكتساب المعرفة، وهو الحدس والتعبير الوجداني، وذلك في مقابل ''الروم والعجم'' (اليونان والفرس)، الذين ''أكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام