لقد صح وصف البيت الأبيض لخطاب الرئيس بوش الأخير، الذي ألقاه أمام ''المؤسسة الوقفية القومية للديمقراطية'' في السادس من شهر أكتوبر الجاري بالأهمية· فعلى رغم ما اعترى الجهد الذي بذل في ذلك الخطاب من نقائص وعيوب، إلا أنه جاء معبراً عن آخر ما توصل إليه الرئيس بوش في محاولة ربط حربه على العراق بحربه الأوسع نطاقاً، المعلنة على الإرهاب الدولي· كما يمكن وصف الخطاب بأنه بمثابة ''مانفيستو'' صادر عن المحافظين الجدد، وأنه رؤية آيديولوجية للنزاع الدولي الدائر بين الحرية والطغيان، بين قوى الخير وقوى الشر· يذكر أن بذرة هذه الرؤية كانت هناك سلفاً منذ لحظة إعلان الحرب، غير أنها تنامت أكثر فأكثر مع ازدياد الحرب العراقية سوءاً من ناحية، وانقلاب الرأي العام عليها من الناحية الأخرى·
وعلى رغم التأكيدات المتكررة من جانب الرئيس بوش، على أن إحراز التقدم في العراق، صار أمراً مفروغاً منه، ولا نكوص عنه، إلا أن هناك الكثير من الأدلة والقرائن، مما يؤكد العكس تماماً· والشاهد أن المصاعب التي تواجهها أميركا في العراق، إنما يفاقمها ويزيدها سوءاً، تراجع تأييد الرأي العام لتلك الحرب، مصحوباً بانحسار وتراجع شعبية الرئيس بوش نفسه· وبعد أن تراجعت هذه الشعبية إلى أدنى مستوياتها لتصل إلى ما دون نسبة 37 في المئة، فمن الواضح أن المشهد السياسي الأميركي والعالمي، قد أصبح بحاجة ماسة إلى ''خطاب براق'' فعلاً! ووفقاً لرؤية الرئيس بوش، فإن الحرب على الإرهاب، لا تقل أهمية عن الحرب العالمية الثانية، أو الحرب الباردة· تلك هي الفكرة التي سبق للرئيس بوش أن عبر عنها في خطاب سابق ألقاه أمام وحدة عسكرية كبيرة في سان دييغو· وبالمنظور ذاته، فقد جرت المقارنة بين تنظيم ''القاعدة'' والنازية والشيوعية، في حين جرى تشبيه أسامة بن لادن، بالقائد النازي أدولف هتلر، والشيوعي جوزيف ستالين·
ومما لاشك فيه أن في هذه المقارنات مزايدة، بسبب ما انطوت عليه من مغالاة ومجافاة لحقائق التاريخ· فعلى رغم جدية الخطر الذي يمثله تنظيم ''القاعدة'' منذ أيام وجوده في أفغانستان، إلا أنه لا يرقى إلى مستوى ذلك الخطر الذي كانت تمثله النازية والشيوعية· وإنه لمن المثير للسخرية أن يرفع الرئيس ذلك التنظيم الإرهابي -القاعدة- إلى مصاف إمبراطورية مترامية الأطراف، لا تزال تحت الإنشاء، في ذات الوقت الذي يقدم فيه صورة واقعية عنه، مثيرة للقلق، بوصفه إياه على أنه ''عبارة عن خلايا محلية، لا تخضع لإدارة موحدة مركزية، ويبدو أقرب إلى شبكة هلامية رخوة، ذات أفرع وأذرع كثيرة متعددة، لا تشبه في شيء التشكيلات العسكرية التي تعمل في ظل قيادة عسكرية موحدة''·
وفي الشق الآخر من المقارنة، فإن إحدى كبريات المشكلات التي واجهتها الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، هي إصرارها على رؤية كافة النزاعات والصراعات الإقليمية من خلال عدسة التنافس الأميركي- السوفيتي، الذي اتسمت به سنوات الحرب الباردة· وبالنتيجة، فقد كان مصير النظر إلى كافة النزاعات أحد أمرين، إما أنها صنفت على أنها في غاية المحلية والمحدودية، أو نظر إليها بالكثير من المبالغة والمغالاة· وإذا ما أضفنا إلى المقارنات هذه الشيشان وفلسطين أيضاً، فربما ينطبق عليهما الأمر نفسه· والمشكلة أننا وبحشرنا لهذه النزاعات جميعاً في قالب دولي واحد، فإننا نفقد بذلك القدرة على النظر إلى خصائصها المحلية والإقليمية، مما يعني عجزنا عن إيجاد الحلول الممكنة لها· وأخيراً، فإن هناك خطراً آخر يكمن في اعتراف الرئيس بوش بأن العراق أصبح وقوداً جديداً للتطرف والإرهاب الدوليين· ألا يعني ذلك هزيمة لمنطق الحرب، واعترافاً باستمرار وأزلية النزاع؟ فإذا كان الأمر كذلك، فإن المطلوب الآن، خطاب واضح عن الخطأ الذي جرى في العراق، بدلاً من خطاب آيديولوجي لن يفعل أكثر من تلوين الحقائق، وإبقائنا طويلاً في ذلك المستنقع الدموي·