أحياناً كثيرة لا يكتب التاريخ المؤرخون والباحثون بل يكتبه السياسيون والإعلام الرسمي، ومن هذا المنطلق رسمت صورة للسلطان محمد السادس والمعروف بمحمد وحيد الدين، كخائن للدولة التركية وخاصة بعد توقيعه على معاهدة سفريس في العاشر من أغسطس ·1920 وبموجب هذه المعاهدة تنازلت اسطنبول عن أراضي ما تبقى من الإمبراطورية للدول الغربية وحلفائها الإقليميين· ويضيف التاريخ الرسمي أن السلطان رضخ للاحتلال اليوناني لأزمير ولإدرنة وتقبل وجود دولة أرمنية مستقلة شرق الأناضول· وهذه الصورة الهزيلة والتي وطد منها التاريخ التركي الرسمي تبرز من خلال الصور الفوتوغرافية للسلطان العثماني الأخير وهو يغادر العاصمة على بارجة بريطانية بعد أن تم إلغاء الخلافة العثمانية في الأول من نوفمبر عام 1922 متوجهاً إلى منفاه في مالطا· سلطان أخير، سلطان ضعيف، ونقيض شقيقه الأكبر السلطان عبدالحميد، ولم تمضِ سنوات أربع حتى قضى في سان ريمو بإيطاليا·
ومنذ تلك السنوات المضطربة كتبت القومية التركية تاريخ تركيا والدولة العثمانية في سنوات أفولها ومجدت الكمالية بجميع إنجازاتها وإخفاقاتها، وقارنت بين وطنية أتاتورك ذئب الأناضول وبطل غاليبولي ومحرر الأراضي التركية من الاحتلال اليوناني والغربي والسلطان ''الخائن'' الذي رضي بتسليم الأرض من خلال إذعان سفريس ودون استشارة حكومة أنقرة التي كانت تخوض حرب تحرير ضروساً· ولم تنسَ كتب التاريخ أن تذكر تمرد ولي العهد عبدالمجيد على والده وسجنه خوفاً من الانضمام إلى جيش التحرير الذي يقوده مصطفى كمال·
هذا هو التاريخ الذي يكتبه السياسي، وهو في هذه الفترة محل مراجعة فيما يتعلق بدور السلطان محمد وحيد الدين، فالعديد ممن هم محسوبون على اليمين يجادلون بأن السلطان الأخير كان يدعم سراً حملة أتاتورك لتحرير تركيا من استحقاقات هزيمة الحرب العالمية الأولى· ويضيف أحد المراجع التاريخية التركية المهمة أن علاقة السلطان الأخير بأتاتورك لم تكن بذلك السوء وشهدت فترات مد وجزر، ففي فترة ما كان الضابط الشاب المرافق العسكري للسلطان،
كما أن محمد السادس لم يسرق خزينة الدولة ولم يتآمر عليها في سنوات منفاه الأخيرة، وأنه في المحصلة الأخيرة لم تكن بيده الصلاحيات والقوة ليتخذ مثل هذه القرارات المصيرية حتى وإن كانت شرعية موقعه مهمة ومؤثرة· وبالمقابل يصر اليسار التركي ومثقفوه على التمسك بالتفسير الرسمي للتاريخ والذي يرى أن السلطان وفي فترات التحرير في العشرينيات من القرن الماضي كان همه الوحيد التمسك بعرشه، وبالتالي فلا داعي لمراجعة تضع أتاتورك في موقع البطل القومي ومحمد وحيد الدين في موقع الخائن· ولا شك في أن التمسك بوجهة النظر هذه لا يعود لسبب تاريخي محض بل يرتبط بمرجعيات رئيسية حية تعني الدولة التركية الحالية والمجتمع التركي الحديث·
والغريب في هذا الجدل الدائر هو تبادل المواقع بين من عرف في فترة معينة كحكماء السياسة التركية، وأعني بولنت أجاويد الزعيم اليساري بامتياز وسليمان ديميريل الرئيس السابق ورمز من رموز يمين الوسط· ففي الجدل المحتدم يقف أجاويد، عكس تياره ويؤكد أن خليفة بني عثمان الأخير كان وطنياً حقيقياً وداعماً ومتعاطفاً مع حملة أتاتورك لتحرير البلاد من قوات الاحتلال المختلفة التي نهشت أجزاء كبيرة، وحتى من الحدود المصغرة، والتي تنازل عنها محمد السادس في سفريس· أما ديميريل فلا يجد سبباً لإعادة مراجعة التاريخ الرسمي ويريد أن تبقى الصورة النمطية التي كونها التاريخ الرسمي التركي عبر عقود من الأدلجة الجمهورية، ويبدو ديميريل في تحفظاته مهموماً بتفتت المرجعية الكمالية والتي سيرت الشأن التركي منذ ما يقارب الثمانية عقود·
تبقى كلمات محمد السادس في مذكراته التي يقول فيها إنه وبرغم عدم قدرته على تفادي بعض الأزمات الحادة والأحداث، إلا أنه حاول أن يتحمل الوزر وأن ينقذ وطنه من خلال التضحية بنفسه· هذه الشهادة والمراجعة التاريخية لدور الخليفة الأخير وسلالته تدور رحاها اليوم على الساحة التركية، ولكنها أيضاً وبلاشك تعني العديد من أقطار الشرق·