بمظنة الاشتغال الحريص على التنظير للمستقبل يتم دوس الحاضر· وبمظنة الاشتغال المستمر على استلهام الماضي لخلق ذلك المستقبل يتم دوس الحاضر أيضا· الحاضر هو الضحية، يقع بين أقدام المتحمسين للماضوية أو المستقبلية· لحظة الماضي المجيد التليد العتيد هي البرنامج السياسي والأيديولوجي والطوباوي لتيارات وأحزاب وجماعات ومفكرين وكتاب وجحافل لا تحصى في زمن عربي حزين· ولحظة المستقبل الآتي، كما يُظن، بنهضة زاهرة لا مناص عنها، ومجد مجيد تليد عتيد هي أيضاً البرنامج السياسي والأيديولوجي والطوباوي لشرائح مماثلة أو أوسع· كتاب رضوان زيادة الجديد ''أيديولوجيا النهضة في الخطاب العربي المعاصر'' يلتقط الشق الثاني المستقبلي، ويتوقف عنده، ويفكك هذا الهروب الفكري المدهش إلى المستقبل (سعياً نحو النهضة المأمولة) فيما الحاضر يئن تحت أثقال الفشل السياسي والاجتماعي والثقافي المرعب· يضع زيادة إصبعه على ضمور فكري كبير يظنه كثيرون ازدهاراً فكرياً متطلعاً إلى المستقبل: إنه الانهجاس بالنهضة، بالغد الآتي، بالمستقبل الذي لابد أن يكون مشرقاً، باليوتوبيا التي يعفينا، كما نظن، من عدم انشغالنا بتحقيقها في حاضرنا تغزلنا بما ''ستكون'' عليه في مستقبلنا·
فشلت السرديات الكبرى، والأيديولوجيات الشاملة، شيوعيِّها، وقوميِّها، وناصريِّها، وإسلاميِّها، وشعر كثير من المثقفين العرب بأنهم عزل من الأيديولوجيا، عزل من مصباح ديوجين الذي يضيء ديجور الظلام! كارثة الأيديولوجيا، أية أيديولوجيا، أنها تخدع نفسها والآخرين بإهمال الواقع، إذ تتعالى عليه وتظن أن بإمكانها تغييره بكتاب أو نظرية، ومن دون أن تتوحل به· بعد أفول عصر الأيديولوجيا (وحتى خلاله) تبوأ خطاب الغزل بالنهضة المأمولة موقعاً متقدماً - وصار ''وهم النهضة المأمولة يعفي الكثير من مثقفينا من الوقوف على واقعهم الحقيقي وأزماته''، يقول زيادة·
ويقول أيضا، إن العودة الجحافلية إلى خطاب النهضة كما كان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مدهشة، وكأن القرن الذي يفصلنا عن ذلك الخطاب كان خاوياً من الفكر، عقيما من التجارب· ينتقد زيادة هذه العودة لاستلهام إيديولوجي لخطابات عاشت زمنها، وردَّت على الشروط التي ولدت فيها· فعوض أن يواجه خطاب مثقفي اليوم الأزمات الراهنة الضاغطة، يذهب قرناً إلى الوراء بحثاً عن خلاص فكري· لكن يبدو أن اللجوء الجماعي إلى تلك اللحظة المشرقة والقصيرة في التاريخ الفكري الحديث للعرب هو أبعد من النوستالجيا أو الرغبة بالتأدلج، إذ فيها إعلان انتماء لحقبة من التسامح الفكري والتلاقح الخلاق الذي ما عاد بالإمكان ممارسته في اللحظة المظلمة الراهنة· والاقتباس الشهير الذي يقتبسه زيادة عن محمد عبده يغني عن كتب، إذ لا يمكن تخيل إمكانية أن يقوله أحد هذه الأيام من دون أن يوصم بكل تهم العمالة والتبعية للغرب، والاقتباس جاء في سياق مناقشة لمحمد عبده لقارئ كان يعتقد أن حكم الشورى الإسلامي أصل من أصول الدين ولا علاقة لأوروبا به، وفيه يقول: ''لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم أصل من أصول ديننا فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على حال الغربيين· فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام''·
بيد أن انتقاد زيادة للعودة إلى خطاب عصر النهضة وأدلجته لا يقوم على قاعدة التفارق الزمني والإبحار إلى إحداثيات ماضوية، عوض الانغراس في الحاضر، بل أيضا على نقد ذلك الخطاب لزاوية سلطويته والعناوين التي كان يتوجه إليها· فـ''النهضويون الأوائل'' كانوا يخاطبون السلاطين والقادة بأفكارهم، آملين أن يستمعوا لهم فتهبط النهضة من فوق لتحت· فالطهطاوي كان يتوجه إلى الخديوي إسماعيل عاقدا عليه الأمل، وخير الدين التونسي إلى أحمد باي، وهكذا·
إلى ذلك، هناك مَعْلم بارز في الخطاب العربي المعاصر وتنظيره للنهضة، ألا وهو تعليل وفهم الأزمة وتحليل أسباب التخلف· وهنا يلحظ أن ثمة شبه إجماع على التخلف الراهن، وهو وصف يأبى كثيرون استخدامه ويفضلون عليه وصف ''التأخر''، ليس سوى لحظة عابرة سيعقبها انطلاق لا يفتر للنهضة· ويؤدي هذا التبسيط إلى القفز عن دراسة أسباب التخلف العربي لصالح دراسة أسباب النهوض الأوروبي· ويرى زيادة أن مقاربات الخطاب العربي لفهم التخلف ومن ثم ''الانطلاق إلى النهضة'' يمكن توزيعها إبتسمولوجياً إلى أربع مقاربات (بعيدا عن التصنيف الكلاسيكي القائم على الأيديولوجيات، أي المقاربات القومية، واليسارية، والإسلامية، والليبرالية)·
مقاربات زيادة، أو محاولات المثقفين العرب لفهم الأزمة، هي: الأولى، مقاربة منهج المجتمع الأبوي، ورائدها هشام شرابي، والثانية، المقاربة الفكرية والتي نظرت إلى تخلف العرب بكونه أزمة فكرية أولاً وأخيراً، وفي داخل هذه المقاربة هناك مقاربة الإسلاميين الذين يعتقدون أن البعد عن الدين هو أس البلاء· وهناك المقاربة الثالثة وهي مقاربة التحليل الماركسي والتي لم تن