نظر العالم على الدوام إلى أسعار النفط المرتفعة باعتبارها بلاء مطلقا وشرا كبيرا على الاقتصاد العالمي، لأنها على حد اعتقاد العديد من الاقتصاديين بمنزلة ضرائب إضافية غير مباشرة تفرض على مدخولات المستهلكين والمستثمرين، وتحد بالتالي من إنفاقهم بما يقلص دائرة النشاط الاقتصادي ويكبح النمو· غير أن التجربة الحالية لأسعار النفط المرتفعة تكشف عن حقائق جديدة داخل سوق النفط من شأنها أن تقوض تلك النظرة التي تستند بالكامل إلى تجارب الهزات النفطية التي ضربت الاقتصاد العالمي في سنوات السبعينيات وبداية الثمانينيات والتسعينيات ودورها في فترات الركود التي أصابت العالم· فقد كشفت الأسعار الحالية عن أن العامل الذي يقف وراء حركة الأسعار مهم للغاية في تحديد طبيعة التأثير الذي تتركه الأسعار المرتفعة في الاقتصاد العالمي· فإذا كان السبب هو اضطراب مفاجئ في الإمدادات، فإن الأسعار المرتفعة الناجمة عنه يمكن أن توجه ضربة غير متوقعة للنشاط الاقتصادي تخل بتوازنه وتشيع فيه الركود· أما إذا كان السبب ينبع من ازدهار الطلب، كما هو الأمر الآن، فإن أسعار النفط المرتفعة قد لا تعدو أن تكون أكثر من ظاهرة من ظواهر قوة وعافية الاقتصاد العالمي الذي بإمكانه أن يتحمل أسعارا أعلى للنفط مما يستطيع تحمله لو جاء ارتفاع الأسعار عن طريق اضطراب الإمدادات·
ثمة حقيقة أخرى كشفت عنها سوق النفط الحالية تتمثل في أن ظاهرة العولمة وتزايد وحدة واندماج الاقتصاد العالمي قد قوضت أيضا من حالة الانفصال بين المنتج والمستهلك وخففت من حدة التباين في المصالح· وبهذا المعنى فإن ''مصائب قوم'' لم تعد دوما ''فوائد'' عند قوم آخرين والعكس صحيح· ويظهر ذلك جليا من المؤشرات الصادرة مؤخرا بشأن اتجاهات ادخار واستثمار الإيرادات النفطية الإضافية لدى الدول المنتجة للنفط· فبدلا من إنفاق الجزء الأكبر من تلك الإيرادات على مشاريع باذخة ومكلفة لم تنطو جميعها على جدوى اقتصادية كبيرة، كما كانت الحال في فترات الازدهار النفطي السابقة، يلاحظ بأن الدول المنتجة أصبحت تميل إلى ضخ جزء مهم من تلك الإيرادات في عجلة الاقتصاد العالمي عن طريق الاستثمار الحكيم في مجالات نافعة تعود بالفائدة على عموم الاقتصاد العالمي· وتلاحظ بعض التقديرات أنه في حين أن الدول المنتجة أنفقت نحو 90% من إيراداتها النفطية في السبعينيات وأكثر من 60% من تلك الإيرادات في الثمانينيات فإن نسبة ما تنفقه في الوقت الحاضر من إيراداتها لا يتعدى 36%، في حين يذهب المتبقي إلى ادخار واستثمار في الاقتصاد العالمي من خلال الأسواق المالية·
ذلك ما دفع بصندوق النقد الدولي إلى الاعتراف في تقرير أصدره مؤخرا بأن أسعار النفط المرتفعة لم تترك سوى ''آثار محدودة'' على نمو الاقتصاد العالمي الذي يتوقع له الاستمرار عند وتيرة مرضية·
ثمة حقيقة أخيرة تتمثل في تشابك وارتباط عمليات المنبع والمصب النفطية، بحيث لم تعد أسعار النفط والمنتجات دالة على حالة مجال إنتاج العالم من الخام· إذ كما تكشف عنه الأسعار الحالية فإن جزءا كبيرا من الارتفاع يرجع إلى طاقة التكرير في الدول المستهلكة التي تبدو الآن عاجزة عن مواكبة النمو في الطلب·
عن نشرة أخبار الساعة
الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
www.ecssr.ac.ae