وجدتُ نفسي مدفوعاً للكتابة عن العراق·· وللمرة الثالثة أو العاشرة· فمتابعة الوضع بالداخل، وما حوله، تكادُ تُعادلُ في الأهمية الوضع الفلسطينيَّ إنْ لم تَفُقْهُ· ففي فلسطين حصل الأسوأ، وما عاد منتظَراً أو مأمولاً أن تتحسَّنَ الأوضاع، بل الأملُ أن لا تزداد سوءاً· وزيادةُ السوء في فلسطين يمكن أن تأتي من عنصرين؛ الأول تَفَاقُمُ الصراع بين ''فتح'' و''حماس'' بحيث يسقُطُ مشروع الدولة الفلسطينية في الأمد المنظور، والثاني تخاذُلُ الأميركيين للمرة الثالثة أو العاشرة، بحيث يتمكنُ شارون من التقاط أنفاسه دونما ''تنازُلاتٍ'' جديدةٍ لكي يتجاوَزَ الانتخابات الآتية بعد قُرابة العام بنجاح·
أما في العراق فالوضْعُ مفتوحٌ على كلّ الاحتمالات: من الحرب الأهلية وإلى التقسيم والفوضى وإلى زيادة التدخلات الإيرانية فالتركية· وقد كانت تطورات الأسابيع الماضية لافتة· فقد توالت تقارير صحفيةٌ أميركيةٌ عن زيادة النفوذ الإيراني بالعراق، في حين يتلهّى الأميركيون بمصارعة الزرقاوي· وجاءت بعد ذلك تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل المتذمِّرة من السياسات الأميركية التي أدَّت إلى استيلاءٍ تدريجيٍ من جانب الإيرانيين على أنحاء من العراق· وعلى هذه التصريحات ردَّ وزير الداخلية العراقي بعنف، وتلاه وزير الخارجية العراقي أيضاً محاولاً التهدئة والاعتذار· وقبل أربعة أيامٍ زار الرئيس حسني مبارك المملكة العربية السعودية، وأُعلن أنّ مباحثاته هناك كانت حول العراق بالدرجة الأولى، ثم حول فلسطين وسوريا ولبنان· وعندما كان الرئيس المصري يزور السعودية، كان أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى يعلن عن إرسال أحد نوابه (أحمد بن حلي) إلى العراق، وإمكان أن تعقد الجامعةُ مؤتمراً حول العراق، بحثاً عن المصالحة وعن أُفُقٍ للحلّ·
عندما غزا الأميركيون العراق قبل سنتين ونصف، كانت هناك عاصفة دولية وعربية ضد الغزو· بيد أنّ حُجَجَ الدوليين كانت غير حُجج العرب· الدوليون كانوا خائفين من أن تؤدي الحرب الأميركية إلى حروبٍ أخرى، وخائفين من أن يزداد العداءُ العربي والإسلامي للغرب والولايات المتحدة فيزداد الإرهاب· أما العربُ فقد كانوا خائفين من الفوضى، التي قد تضرب وحدة العراق، كما تضرب الاستقرار في الدول المجاورة· ويقال إنّ الأردنيين والقطريين·· وربما السعوديين وافقوا أو سلَّموا في النهاية بسبب الضغوط القاهرة· لكنهم ما أسقطوا حُجَجَهم ولا تخوفاتهم· وعلى مشارف عام 2004 بدا أنّ لتلك التخوفات ما يبررها· فقد تبين أنّ العراق لا يملك أسحلةً للدمار الشامل، وأنّ الإرهابيين ما كانوا بالعراق بل دخلوه بعد الغزو الأميركي· وبرز عاملٌ جديدٌ هو النفوذ الإيراني الطاغي عَبْر ميليشيات ''المجلس الأعلى'' و''حزب الدعوة''، وعبر العراقيين ذوي الأصول الإيرانية العائدين، وعبر الشرطة والجيش الجديدين· وقد دفع ذلك عبد الله الثاني ملك الأردن أواخر عام 2004 للتحذير من الهلال الشيعي بامتداداته ما بين إيران ولبنان والجزيرة العربية عبر العراق· وقد دفع ذلك شيعةً عراقيين متخوفين أيضاً من النفوذ الإيراني للقول إنّ الملك الأردني أخطأَ، وكان ينبغي أن يتحدث عن الهلال الإيراني، وهذه هي الحقيقة؛ إذ أنّ الدين والمذهب في هذا المشروع وسيلة لا غاية· وبعد حوالي العام، تحدث وزير الخارجية السعودية عن الموضوع نفسه لكنْ بشكلٍ أدقّ، قاصراً الأمر على النفوذ الإيراني في العراق، والذي تسبَّب به الأميركيون بالغزو، وبتصرفاتهم بعد الغزو·
وكما سبق القول، ففي الأسابيع الأخيرة، بدأ صحفيون أميركيون معارضون للغزو في الأساس يتحدثون بلهجة متشككةٍ عن تراجُع إمكانيات وفُرَص الانتصار لقواتهم بالعراق· وسبب التشكك تصاعُدُ قُدُرات المتمردين والإرهابيين· بيد أنّ آخَرين ما كانوا معارضين للغزو مضوا إلى ما وراء القشرة الخارجية، فتحدث عددٌ منهم عن قيام نظامٍ شيعيٍ محافظٍ بل متشدّد في جنوب العراق، بينما تحدث عددٌ آخرُ عن استيلاء إيران على العراق واستتباعه كما سبق لسوريا أن استتبعت لبنان·
وقد بدت إدارة بوش الثانية متجهةً لتغيير سياساتها الشرق أوسطية في الشكل على الأقلّ؛ إذ مضت بتصميمٍ في القضية الفلسطينية، وتحدثت عن إعادة التوازُن في العراق من خلال إشراك السنة بقوةٍ في العملية السياسية· ثم انفجر الملفُّ النوويُّ الإيراني الذي يُعسعسُ منذ سنوات بأيدي الأوروبيين وكلاء الولايات المتحدة، فصارت المواجهةُ شاملة· والحقيقةُ رغم كل شيء، أنّ الاندلاع العلني للصراع الأميركي-الإيراني، يحدُثُ للمرة الأولى بعد المهادنة النسبية منذ مطالع التسعينيات· فقد تعاون الإيرانيون مع الأميركيين بأفغانستان وبالعراق، واستفادوا كثيراً بالسلب وبالإيجاب· أمّا بالسلب فإنّ الأميركيين أزالوا نظامين عدوين لإيران كانا يقبعان بجوارها، وأمّا الإيجاب فإنّ إيران كسبت نفوذاً كبيراً في البلدين دونما جهدٍ كبير، بسبب الفوضى، وتضاؤل أسباب وعوامل التضامن الداخلي والاستقلالية الوطنية المفترضة بعد سقوط ن