يهلُّ علينا شهر رمضان الكريم، والأمة العربية والإسلامية في أصعب مراحلها التاريخية، وشهر رمضان فرصة عظيمة لنا كمسلمين أن نستفيد من دروسه وفضائله وحسناته ومعانيه ودلالاته، ورموزه الإيمانية والروحية العظيمة التي خص الله بها هذا الشهر دون غيره· وهو الشهر الوحيد الذي ذكره الله في كتابه الكريم فقال تعالى: (شَهْرُ رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)·
شهر رمضان مدرسة إيمانية كبرى وفريضة من أعظم العبادات، حيث إن المسلم في صيامه لا يبتغي إلا وجه الله، وكما يقول الإمام الغزالي الصوم ربع الإيمان بمتقضى قول الرسول صلى الله عليه وسلم ''الصوم نصف الصبر''· وهو فرصة ذهبية لأن نقترب من الله عز وجل بقوة وأن نحصل على رضاه والجنة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ''إن في الجنة باباً يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون''· وكان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر ويخطب فيهم قائلاً: ''لقد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة''·
وكان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح يستعدون لرمضان بالاجتهاد ويجتهدون في العبادة قولاً وعملاً، ويبذلون كل طاقتهم الروحية والنفسية والإيمانية قبل أن يأتي بستة أشهر، ويستمرون في الاجتهاد والعبادة والتمسك بمعاني هذا الشهر الكريم وفضائله ودلالاته ستة أشهر أخرى، بحيث تتحول السنة بأكملها في حياتهم إلى صورة من رمضان· لذلك فقد تحققت على أيديهم لهذه الأمة إنجازات عظيمة وانتصارات عسكرية ضخمة خاصة في رمضان كان أهمها: معركة بدر الكبرى وغزوة الخندق وفتح مكة ومعركة القادسية وفتح الأندلس ومعركة عين جالوت ومعركة العاشر من رمضان، وأصبحت الأمة الإسلامية أعظم أمة في التاريخ الإنساني· وإذا دققنا النظر وبحثنا في السبب الذي جعل هذه الأمة تصل إلى حالة من الضعف، فإننا سنجد الجواب واضحاً في موضوع ابتعادنا عن روح الإيمان وجوهر العبادة الحقيقية التي كان يجتهد السلف الصالح في القيام بها قولاً وعملاً، حيث تحول رمضان عندنا من شهر للعبادة والتهجد والطاعة والصدقة وفعل الخير وطلب المغفرة والرحمة وقضاء الليل في الصلاة وقراءة القرآن الكريم، إلى مجرد شهر نستعد له بشراء كمٍ هائل من الأغذية، وكأننا سوف نعيش طوال الشهر في حالة حصار وكمٍ هائل من البرامج والمسلسلات الهابطة والتي تهدف إلى تمزيق نسيج جوهر المراد من الصوم وإشغال المسلم عن التعبد فيه، وذلك بأن يجلس أمام شاشة التلفزيون يتنقل بين القنوات الفضائية من بعد الإفطار حتى مطلع فجر اليوم التالي· هذا غير البرامج والسهرات التي تعدها بعض الفنادق والمقاهي والتي تتعارض مضامينها كلياً مع مقاصد هذا الشهر الكريم· تحول الصوم الذي أثبتت الدراسات الطبية وكبار العلماء في العالم أنه وقاية وعلاج من أخطر أمراض العصر، إلى إسراف في الطعام واستهلاك للأكل وتراكم للسموم في الجسم وأمراض مختلفة تنتج عن هذا الاستهلاك والتي يظل البعض يعالج منها حتى رمضان القادم· رمضان للأسف أصبح عند البعض يرتبط بصورة الكسل والخمول والقلق والتوتر والغضب وقلة الإنتاج في العمل·
ما أحوجنا في هذا الشهر الكريم إلى أن نتعلم من معانيه ومقاصده الكثير الكثير، أن نجعله شهراً لقوة العمل والإنتاج والتسامح والسلام، أن نجعله علاجاً نعالج فيه الكثير من مشكلاتنا· أن نجعله يعين الأمة على قهر المستحيل وأن يكون منطلقاً لإعادة أمجاد الأمة الإسلامية من جديد·