لأربعة عقود من الزمن ظلت تركيا تقرع باب الاتحاد الأوروبي باذلة كل جهدها للحصول على بطاقة العضوية الكاملة لهذا الاتحاد الجبار، وظل أعضاء النادي الأوروبي يحتفظون بالباب موارباً بينهم وبين تركيا، فلا هم أغلقوه في وجهها تماماً ولا هم فتحوا لها الباب واسعاً·· خلال هذه العقود الأربعة المنصرمة التي ظلت خلالها تركيا تسعى سعياً لا يعرف الكلل ولا الملل· تغيرت أشياء كثيرة في أوروبا القارة العتيقة، كذلك تغيرت أشياء كثيرة في تركيا·· انتهت الحرب الباردة وسقط ''الستار الحديدي''، وتوسعت عضوية النادي الأوروبي وسعت أوروبا لضم ''فقراء الشيوعية'' في الشرق إلى عضوية نادي الأغنياء و··· إلخ· وتغيرت أشياء كثيرة أيضاً في تركيا، حيث ذهب الحكام العسكريون (على الأقل في الظاهر)، وجاءت الديمقراطية تسعى إلى تركيا، وعُدلت القوانين وعُدل الدستور التركي لتصبح البلاد متوائمة مع المزاج الديمقراطي الأوروبي، ونشطت التجارة الحرة وازدهرت وازدهر معها الاقتصاد التركي، وبذلت أنقرة جهدها في مجال حقوق الإنسان، وأقرت على الأقل بالخطأ التاريخي في مذابح الأرمن··· إلخ·
لكن في العمق بقي هنالك شيء لم يتغير، في أوروبا أو تركيا··· فأوروبا مع كل العلمانية والديمقراطية والتقدمية، ظلت وستبقى في العمق قارة مسيحية··· وتركيا ومع كل ما حدث فيها من تغيرات ومن علمانية منذ سقوط الخلافة العثمانية ودستور كمال أتاتورك العلماني عام ،1920 ظلت وستبقى في العمق بلداً إسلامياً يقطنه سبعون مليون مسلم، لو أتيحت لهم اليوم حرية الاختيار الحقيقية لاختاروا لبلدهم أن يكون جمهورية إسلامية·· وهذا هو بالضبط مأزق أوروبا مع تركيا ومأزق تركيا مع أوروبا·· ولقد كشفت الأيام الماضية وما جرى خلالها من مفاوضات ومناورات سياسية وضغوط وتهديدات أن ما في العمق على مستوى الشعوب يبقى في العمق، برغم كل محاولات السياسيين مواراته وطلاءه بشتى فنون الحديث عن الديمقراطية والتعايش والأسواق المفتوحة وحقوق الإنسان·
وقد يبدو موقف النمسا متهوراً ومعزولاً عندما اعترضت بكل وضوح على مجرد فتح الباب للتفاوض مع تركيا للحصول على العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي·· لكن واقع الأمر أن موقف النمسا المعلن هذا هو التعبير الصادق عن موقف أغلبية الشعوب الأوروبية التي يريد الأتراك أن يشاركوها عضوية الاتحاد·· ففي استطلاع للرأي جرى مؤخراً في أوروبا قال 89% من الفرنسيين (لا) لعضوية تركيا، وقال 85% من الألمان مثلهم!
والواضح أنه برغم حماس السياسيين الأوروبيين وبخاصة الإنجليز لضم تركيا إلى عضوية ناديهم، فإن ''جماهيرهم الانتخابية'' لا ترغب في ضم سبعين مليون مسلم إلى حظيرتها، وهم -حسب ما عبر كاتب نمساوي- تكفيهم بلاوي الخمسة عشر مليون مسلم الذين ''تزخر'' بهم أوروبا! وهم أيضاً كما قال، ينظرون إلى انضمام تركيا إلى أوروبا باعتبارها ''ستغير طبيعة وشخصية المشروع الأوروبي''·
وقد يرى كثير من الأتراك في قرار وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي فتح باب التفاوض مع بلدهم للحصول على العضوية الكاملة انتصاراً لبلدهم·· لكنه انتصار مشوب بكثير من المرارة وببرودة الاستقبال، وهم يعلمون أن عليهم أن يصبروا طويلاً لمفاوضات قد تدوم عقداً آخر من الزمان لتنال تركيا العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي!
عبدالله عبيد حسن