في عالم يزداد فيه الاهتمام بالمصلحة الشخصية، والمنافسة الفردية في كل مجال من مجالات الحياة المعروفة·· وفي عصر تقوم فيه العولمة بإخضاع الثقافي للعملي، والفلسفي للدنيوي، والأخلاقي للمبتذل، والمعنوي للبراجماتي·· لا يزال من المهم أن نكون متمدينين·
ولكن التمدين يتطلب ما هو أكثر من التحلي بالأخلاق الحميدة· فالقاعدة رقم واحد ورقم 100 من لائحة ''جورج واشنطن'' قامتا بتلخيص الأساس الفلسفي الذي يتم بناء التمدين عليه على النحو التالي:'' التمدين يعني احترام الناس·· بيد أن احترام الناس لا يعني الأدب فقط، وإنما يعني أيضا قبول الآراء المخالفة، واحترام مشاعر الناس واحتياجاتهم، والعمل على شغلهم بحوار ديمقراطي يتسع لتنوع الرؤى وتعدد الآراء''·
واحترام تنوع الرؤى، وتعدد الآراء·· يعتبر أيضا من المبادئ الأساسية للمجتمع الديمقراطي· وكلما ازدادت درجة قبول التنوع في الرؤى، والتعدد في المعتقدات أو الآراء في مجتمع من المجتمعات، كلما كان ذلك يعني أن مستوى التمدين في ذلك المجتمع مرتفع·
واحترام آراء الناس يتطلب مهارات اتصال جيدة، وخصوصا المهارة بالغة الأهمية الخاصة بالاستماع جيداً لما يقوله الآخرون·
واحترام الآخرين يتطلب منا أيضا ألا نتسرع في الحكم على الأشخاص على أساس الشائعات والأقاويل· وهذا التصرف المتحضر هو الأساس في التعامل مع الآخرين·· كما أن تفسير الشك لمصلحة المتهم معيار ضروري لتحقيق العدالة الطبيعية· والمجتمعات التي تسير على هدى من العدالة الطبيعية في قوانينها، وفي الكيفية التي تتم بها معاملة المواطنين هي المجتمعات التي يمكننا أن نطلق عليها مجتمعات متحضرة·
أما التصرفات غير المتحضرة فهي تلك التي تقوم على عدم الثقة كأسلوب للتعامل مع الغير، مع رميهم في نفس الوقت بكل نقيصة· ففي المجتمعات غير المتحضرة، يتم النظر إلى كل الناس باعتبارهم متهمين إلى أن يثبت العكس، أما في المجتمعات المتحضرة فإن الناس أبرياء إلى أن يثبت العكس·
وإظهار الاحترام للآخرين يعني في نفس الوقت إظهار الاحترام لاحتياجاتهم· وهذا يعني أن يكبح الإنسان احتياجاته ورغائبه الأنانية· وقد يتناقض هذا من وجهة نظر البعض مع حق الفرد في السعي لتحقيق مصلحته الشخصية، باعتبار أن ذلك يشكل أساس التقدم في العالم الرأسمالي بينما الحقيقة هي أن الأمر ليس كذلك· ويرجع السبب في هذا إلى أننا حتى لو نظرنا إلى عقلية السوق التي تقول إن الصالح العام يتحقق من خلال السعي لتحقيق الصالح الخاص لكل فرد، فإننا سنجد أن تحقيق ذلك يتطلب نوعين من التنظيم: التنظيم العمومي والتنظيم الذاتي· وبدون ذلك ستدب الفوضى في المجتمع، ويفترس القوي فيه الضعيف، وتصبح الحياة فيه موحشة ودنيئة ووحشية وقصيرة الأمد·
والتمدين على المستوى الدولي يعني تحقيق التوازن بين الصالح العام وهو هنا صالح العالم بأسره، وبين الصالح الخاص وهو هنا الحريات الفردية للدول· ويعني هذا من ناحية أخرى تحقيق الموازنة بين الهموم والشواغل الإنسانية العامة (الحروب، والفقر، والجهل، وتهديد الحرب النووية، وتحريم جميع أنواع التمييز وتحريم استخدام العنف بمختلف أنواعه) وبين حق الدولة- الأمة في السعي إلى تحقيق المصالح القومية لشعبها· وعدم قدرة أعضاء المجتمع الدولي على حل الصراعات دون اللجوء إلى العنف، دليل على عدم القدرة على الدخول في حوار ديمقراطي، ودليل على عدم التعاطف مع احتياجات الآخرين، وعلى الإخفاق في احترام الصالح العام، وعلى السعي العنيد لتحقيق المصالح الذاتية·
لذلك يمكن القول إن التمدين يتطلب منا في نفس الوقت تحكماً وسيطرة على النفس، وكبح الميل والرغبة لوضع المصلحة الشخصية فوق مصلحة الآخرين سواء في عالم الاقتصاد أو في عالم السياسة، وعالم التعبير عن الرأي· هل يجب علينا أن نقلق بسبب أفول التمدين، وأن نفكر في الكيفية التي يمكننا إحياؤه من خلالها مرة ثانية؟
نعم·· يجب علينا ذلك، لأن هناك عنصراً شخصياً نفسياً فائق الأهمية يرتبط بالتمدين، باعتباره عاملاً معززاً لمشاعر الكرامة لدينا، ومعززاً لمساعينا الفردية والجماعية من أجل تحقيق التطور الإنساني·