وصل الموقف الفلسطيني الداخلي إلى حالة من التأزم المقلق، بعد أن كانت حالة من الاستبشار قد سادت في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من غزة· إن الحالة الراهنة شديدة الخطورة بمضاعفاتها الحادة سواء في مجال إعطاء الذريعة المطلوبة لشارون لقصف القطاع بالمدفعية الثقيلة والطائرات واستثمار العمليات التي قامت خلالها حركة حماس بقصف بلدة سديروت الإسرائيلية بصواريخ ''قسام''، كورقة انتخابية في معركته داخل اللجنة المركزية لليكود، أو في مجال الاقتتال بين كوادر حماس والشرطة الفلسطينية·
وهذه الحالة تدعونا إلى مناشدة العقل السياسي الفلسطيني بإعمال الحكمة، وإظهار القدرة على بناء موقف جماعي داخلي يحقق درجة من الالتحام من ناحية بقدر ما يحقق وضعاً يحرم شارون من ذرائع التدخل من ناحية ثانية، ويؤدي إلى وضع استراتيجية وطنية لاستثمار الانسحاب من غزة لدفع قضية إقامة الدولة الفلسطينية باستكمال الانسحاب من الضفة إلى الأمام من ناحية ثالثة·
لقد أدى الاقتتال بين عناصر الشرطة وحماس إلى مشهد مسيء على المستوى السياسي، عندما قام أفراد من الشرطة باقتحام المجلس التشريعي الفلسطيني أثناء انعقاده في غزة يوم الاثنين الماضي، وأطلقوا النار في الهواء مرددين شعار·· إما السلطة وإما حماس· لقد رأى المراقبون في هذا الحادث دلالة خطيرة تعني أن قوات الشرطة لم تعد تثق في خط السلطة التي لم تهتم بتعرض مخفرين لقواتها للهجوم من جانب حماس ولم تستجب لاستغاثات قوات الشرطة بطلب الإمداد والنجدة في مواجهة القذائف الصاروخية التي أطلقتها حماس على المخفرين· إن دلالة الحوادث المسلحة تعني أن هناك حاجة عاجلة بالإضافة إلى إعمال الحكمة الفلسطينية، إلى تدخل عربي قوي ومؤثر وحكيم لإعادة حالة اللحمة بين حماس والسلطة وقوات الشرطة تفادياً لمضاعفات أشد خطورة· إن الساسة العرب يدركون أن شارون يحاول دفع الموقف الفلسطيني الداخلي إلى الانفجار والاقتتال، عندما ينادي بأن على السلطة أن تتولى فرض التهدئة عن طريق تفكيك البنية العسكرية لحماس· وفي تقديري أن إدراكنا لمرامى شارون في إشعال الموقف الداخلي يجب أن يكون نقطة الارتكاز لجهد دبلوماسي عربي فردي أو جماعي، للجمع بين حماس والسلطة وإرساء تفاهم متسم بالحكمة والالتزام لإخراج الوضع من قبضة شارون·
لقد استثمر شارون صواريخ قسام التي سقطت على بلدة سديروت قبل يومين من التصويت في اللجنة المركزية لليكود، حول اقتراح نتنياهو لتقديم موعد الانتخابات الداخلية على رئاسة الحزب، ليقنع أعضاء اللجنة المركزية بأنه قد حقق لإسرائيل بالانسحاب من غزة درجة أعلى من الأمن لا يفهمها نتنياهو ولا يدرك أبعادها· مع سقوط صواريخ قسام انطلق المعسكر المعارض للانسحاب من غزة في التدليل على صواب رؤيته في ضرورة الإطاحة بشارون عقاباً له على سوء تصرفه الذي مكن حماس من تهديد الأمن الإسرائيلي في العمق بإطلاق الصواريخ بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي· غير أن شارون في ساعات قليلة كان قد جمع بين فصاحة البيان والشرح وبين حشد المدفعية الثقيلة على حدود قطاع غزة· ومع صدور أوامره بقصف القطاع عن بعد، أوضح رجاله أن الانسحاب من غزة أعطى إسرائيل فرصة للرد بكل حرية وقوة عن بعد على حماس، دون خوف على مصير عشرة آلاف مستوطن كانوا رهينة لضربات حماس· من هنا تمكن شارون من إعطاء البرهان على جهل نتنياهو بشؤون الأمن وهو ما مكنه من تحقيق الفوز في التصويت على عكس كل توقعات مراكز استطلاع الرأي·
إن هذه الصورة الواضحة لحساب الربح والخسارة بين شارون وحماس تعني أن قرار شارون بتعليق العمليات العسكرية، يهدف إلى إشعال الموقف بين السلطة وحماس· من هنا يصبح النداء من الكتاب واجباً لإعمال الحكمة الفلسطينية من ناحية وللتحرك العربي المؤثر من ناحية ثانية·