ليس هناك شك في أن العنف الإرهابي الذي يجتاح العالم أصبح من السمات المميزة للمجتمع الإنساني ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين· فلم يعد الإرهاب ظاهرة محلية تقوم بها جماعات سياسية متطرفة أياً كانت هويتها الإيديولوجية، التي تريد أن تنقض على نظام سياسي معين لتقلبه بالقوة، وتقيم على أنقاضه نظاماً سياسياً مغايراً· وقد حدث تحول للإرهاب في العقود الأخيرة ليصبح إرهاباً معولماً - إن صحَّ التعبير - يجتاح حدود الدول، ولا تقف أمامه ''سدود'' الأمن القومي التقليدية·
وهو بهذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعولمة من زاوية سماتها الاتصالية، مع جعل الاتصال المفتوح بين البشر من سمات العصر، وتمكن الإرهابيين من استخدام أدوات الثورة الاتصالية وخاصة الأقمار الاصطناعية والبريد الإلكتروني وشبكة الإنترنت لتحقيق غاياتهم الهدامة·
فكل يوم يتساقط في العراق مئات القتلى والجرحى جراء الإرهاب المجنون الذي يخلط خلطاً معيباً بين المقاومة المشروعة للاحتلال الأجنبي وضرب الشعب العراقي نفسه رجالاً ونساءً وأطفالاً بذرائع واهية· وحتى تحولت آليات الإرهاب بفعل السيارات المفخخة، والبشر المهاويس الذين يفجرون أنفسهم ليصبح بذلك الإرهاب فعلاً عشوائياً، فهو ليس موجهاً ضد أهدافٍ عسكرية محددة للمحتل الغاصب، ولكنه موجه ضد الشعب العراقي نفسه!
ولا تقتصر المسألة على الإرهاب في العراق فهو يضرب في كل مكان، في السعودية وفي مصر وأخيراً في بالي بإندونيسيا، وقبل ذلك بالطبع في قلب الولايات المتحدة الأميركية في أحداث سبتمبر الشهيرة·
وللمفارقة فإن الهجوم الإرهابي على مراكز القوة الأميركية وردود الفعل التي تمثلت في غزو أفغانستان والعراق فيما أطلق عليه ''الحرب ضد الإرهاب''، أصبحت الآن أحد المصادر الرئيسية في تفريخ الإرهاب انطلاقاً من العراق!
وقد تعددت الندوات الفكرية وتراكمت البحوث العلمية التي حاولت أن تشخص ظاهرة الإرهاب وتشرح أبعادها المختلفة، وذلك بغرض التوصل إلى استراتيجيات فعالة لمقاومة تلك الظاهرة·
وفي هذا السياق أتيحت لي المشاركة مؤخراً في ندوة فكرية مهمة انعقدت جلساتها في مدينة الإسكندرية، حاولت أن تقدم رؤية تحليلية لظاهرة الإرهاب، وقدمت فيها بحوث قيمة، تلتها تعقيبات مهمة حاولت أن تؤصل الظاهرة، بالإضافة إلى مناقشات الحضور وأسئلتهم المهمة التي ألقت بأضواء متعددة على هذه الظاهرة التي باتت تهدد السلام العالمي والأمن الإنساني· وقد لفت نظري في الندوة بحث مهم حاول أن يقدم تحليلاً متكاملاً للخطاب الإرهابي من ناحية السمات الأساسية التي تميزه عن غيره من الخطابات الأخرى·
والواقع أن تلك النصوص الإرهابية وهي منشورة في كتب مهمة أعدها بعض الباحثين تحتاج إلى منهج متكامل لدراستها وفهمها·
ويمكن في هذا المجال تطبيق منهج سبق أن اقترحه الفيلسوف البولندي المعروف ''آدم شاف'' لدراسة أية إيديولوجية، أوضح معالمه في مقالة نشرها منذ سنوات بعيدة في مجلة ماركسية فرنسية معروفة هي ''الإنسان والمجتمع''·
ويتحدث ''شاف'' في هذه المقالة عن ثلاثة مقتربات أساسية هي المقترب ''التكويني'' الذي يتعقب النشأة التاريخية للإيديولوجية الإرهابية أياً كانت، والمقترب ''البنيوي'' الذي يحلل العناصر المكونة لها، والمقترب ''الوظيفي'' الذي يبين الأهداف المرتجاة من هذه الإيديولوجية، والوظائف المحددة التي يجب أن تقوم بها·
غير أن تحليل الخطاب الإرهابي يمثل من وجهة نظرنا خطوة تالية لخطوة لابد أن تسبقها وهي عملية إنتاج الخطاب الإرهابي·
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي العوامل المتعددة التي تتضافر لتنتج الخطاب الإرهابي؟
وفي تقديرنا أنه لفهم ظاهرة الإرهاب المعوْلم لابد من تطبيق المنهج المقارن، لكي نعرف أن الإرهاب ليس مقصوراً على العالم العربي والإسلامي فحسب· كما تحاول أن تدعي بعض الأبواق الدعائية الغربية، ولكنه نشأ وترعرع في ظل مجتمعات غربية وآسيوية متعددة، وتلون بألوان شتى، لأن الجماعات التي قامت به كانت جماعات يسارية تأثرت بالماركسية بما توصي به من أن استخدام ''العنف الثوري'' كمسألة مشروعة لقلب النظم الرأسمالية المستقلة، وفيها جماعات يمينية تتبنى إيديولوجيات محافظة تكن عداء لفكرة الدولة المركزية ذاتها، مثل العديد من الميليشيات العسكرية الأميركية والحركات اليمينية المتعصبة فيها· وذلك بالإضافة إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة التي ترى شرعية في الخروج على الحاكم الظالم لمحاربة الطغيان·
غير أن تطبيق المنهج المقارن لابد أن يقودنا إلى حقيقة ثابتة مؤداها أن الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، شهدت في فترة نصف القرن الماضية حركات إحياء ديني تعددت صورها وأشكالها وأسبابها· وهذه الحركات الإحيائية ارتبط بها وإن كان بشكل غير مباشر ظهور جماعات إرهابية تدعو لتطبيق ''الدين الصحيح'' يهودياً كان أم مسيحياً أم إسلامياً، وتتبنى نظرة عدائية إزاء ''الآخر'' المختلف دينياً·
وهناك تفسيرات متعددة لنشأة الحركات الإحيائية،