ليس من السهل تقدير ما دار في رأس كارين هيوز في مواجهتها الأولى مع انتقادات عرب ومسلمين عاديين للولايات المتحدة· بالنسبة إلى الحكومات، لم تكن مهمتها صعبة، فالدبلوماسية تتسع لكل أنواع المجاملات بما فيها تلك الممزوجة بمطالب· لكنها سفيرة ''الدبلوماسية العامة''، أي ''الشعبية'' بصيغة ما، وبالتالي فإن ''زبائن'' عملها هم الناس· وعندما يعبر هؤلاء عن مرارتهم، وعن خيبة أملهم، كيف تتلقى ذلك وكيف تفهمه، وما عساها فاعلة؟
السيدتان اللتان سبقتاها في المهمة لم تتمكنا من الاستمرار، ولم تعلن أسباب عزوفهما، وهناك سيدة ثالثة، هي ''ليز شيني''، ابنة نائب الرئيس، لا تزال تقوم بمهمة موازية، أو يفترض أنها مساعدة، ومن الواضح أنها متأثرة جداً بالنهج الشديد لوالدها، بأفكار ونوازع أيديولوجية موجهة جعلتها تقبل على المنطقة و(شعوبها) بخلاصات جاهزة أكثر ليكودية من الليكود· لكن هيوز تبدو مصممة على البقاء في منصبها على رأس دائرة مستقلة، ولديها ما يقارب الألف موظف وموظفة مع ميزانية وافرة·
ينبغي القول إن هيوز استطاعت إعطاء فكرة معقولة عن شخصيتها، فلديها نية إقامة حوار، كما أن لديها مقاربة هادئة أو هكذا تبدو الآن، خصوصاً أنها لم تستبعد من قاموسها كلمة ''احترام'' للآخر، بل تعوّل عليه· ثم إنها لا تستبعد ''فهم'' الآخرين، وهم هنا العرب والمسلمون، والفهم لا يعني ''التفهم''· أما منهجيتها التي شرحتها أمام لجنة الكونجرس فلخصتها في أربعة توجهات: انخراط، تبادل، تربية، وتمكين··· نحن، إذاً، إزاء صيغة منقحة لأحد فروع مشروع الدمقرطة، وهي توحي بأن المشروع يخضع لمراجعات مستمرة، ومن الواضح أن هذه تطرحه على نار هادئة·
هناك شرائح عدة في المجتمع لا تهم هذا المشروع الذي يريد الآن أن يركز على الشباب، وهو رهان طبيعي ومبرر· وكان لافتاً أن كارين هيوز أرادت أن توحي بأنها لم تأتِ من دون ''هدية''· إنها تأشيرات الدخول، إذ أنها رددت ''كلمة السر'' هذه في كل مكان، وأرفقتها بدعوات كي يأتي الشباب ويدرسوا في أميركا·
في السياق نفسه يبدو الاهتمام بـ''التربية'' أولوية ذكية، وكذلك ''التمكين'' بما يعنيه من ضخ خبرات في الحياة العامة· فإحدى أخطر حلقات الضعف في المجتمعات العربية والمسلمة أن ''الفرد'' ليس محترماً كفرد، ولا يتمتع باعتراف بمواطنيته، فضلاً عن أن البيئة التي يعيش فيها لا تمده بوسائل تنمية وعيه لدوره وثقته بنفسه· الأكيد أن المشروع الأميركي استفاد من تقارير التنمية البشرية واستخلص منها مفاصله الرئيسية، أو بالأحرى الأهداف التي تهمه، لذا كان ولا يزال التشديد على التعليم وعلى تحسين أوضاع المرأة وتمكينها·
هناك عمق، إذاً، في مغامرة كارين هيوز، وهناك أيضاً طموحات ضخمة، للطرفين· وفي أي حال، من قال إن العرب والمسلمين نذروا أنفسهم لصنع الصورة البشعة للولايات المتحدة، إذا افترضنا أن هذه الصورة سيئة عندهم هم وحدهم من دون سائر الأمم·
الصورة ملوثة ومشوّهة بنتائج السياسات الأميركية، وليس لمسؤولة الدبلوماسية العامة أن تهتم بهذه السياسات، ولا أن تقترب منها· ففي شهادتها أمام الكونغرس تحدثت عن تقديم فكرة صحيحة وسليمة عن بلدها، واعتبرت الترويج لـ''السياسات'' من مهماتها، كذلك شرح ''المواقف'' الأميركية لتكون مفهومة· هذا لا يفترض فقط عرض محاسن خطب الرئيس وتصريحاته، وإنما يفترض خصوصاً نسيان الماضي والانطلاق من اللحظة الراهنة· الناس الذين التقتهم هيوز وستلتقيهم لم ''يفهموا'' مواقف أميركا فحسب بل تلقوا قنابلها وصواريخها· هؤلاء الناس لم تلدهم أمهاتهم معادين لأميركا، لكنهم عاشوا وعانوا و''فهموا'' بعدما رأوا وتعرضوا للأذى من أميركا ومن حكوماتهم·
طالما أن الصلة مقطوعة بين ''مشروع هيوز'' وبين صانعي الحروب والسياسات فإن حظوظه للنجاح محدودة· إنه كمن يعمل لتجميل حديقته لكن بيته مدمر، وفي جانب آخر يبدو هذا كأنه رشوة لقاء السكوت على السياسات الخرقاء، وقد جرب هذا الأسلوب طويلاً ثم أفضى إلى ما نحن فيه الآن· ويوم تصبح السياسات حكيمة وسوية لن تكون هناك حاجة إلى تحسين الصورة·
عبدالوهاب بدرخان
نائب رئيس تحرير جريدة ''الحياة'' - لندن