وبعد، فقد يتساءل القارئ: وما علاقة ''الحكايات'' التي ذكرناها في المقالين السابقين، عن رسالتي الطالبين اليابانيين للدكتوراه، مع ''الفضاء الحضاري للثقافة العربية''، موضوع كلامنا في هذه المقالات؟
الواقع أنني عندما بدأت أفكر في الكتابة في هذا الموضوع، كمساهمة مني في الكتاب الجماعي الذي أعدته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو) والذي تقرر ترجمته إلى اللغة الألمانية، لغة العلم والفلسفة في عصرنا، تساءلت كيف يمكن التمييز في عالمنا، الذي يقال عنه إنه صار قرية واحدة، بين فضاءات حضارية خاصة يحدد كل منها -أو يؤطر- ثقافة خاصة؟ ثم ماذا عسى أن تكون العلاقة بين الفضاء الحضاري للثقافة العربية والفضاء الحضاري للثقافة الألمانية، علما بأن اللغة الألمانية لا تميز بين ''الحضارة'' و''الثقافة'' كما هو الشأن عندنا؟
الآن وقد اتضح من خلال المقالين الماضيين أن هناك في عصرنا أكثر من فضاء حضاري، وأن الفضاء الحضاري للثقافة العربية اليوم يتحدد -بالنسبة لفضاء حضاري آخر خاص باليابان- بكونه يقع جغرافياً في الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، ويتميز ماهوياً بذلك ''الفصل الحاد بين النفس والبدن''، الشيء الذي يعني أن أوروبا تتقاسم معنا نفس الموقع الجغرافي ونفس المحدد الماهوي، أقول، الآن وقد اتضحت أمامنا هذه المعطيات، يبقى علينا أن نجمع أمرنا ونشرع في معالجة موضوعنا انطلاقاً من هذه النتيجة· ولكن بما أن هذه النتيجة مستقاة من عالم عصرنا، الذي يختلف اختلافاً كبيراً من عدة وجوه، عن عالم ماضينا، فإنه سيكون علينا أن نلتمس لأنفسنا من هذا الماضي شهادات قد تثبت أن ''الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء'' حسب عبارة ابن خلدون·
وما أن بدأت في استعراض شخصيات من تاريخ الثقافة العربية حتى انتصب أمام ناظري كل من أبي عثمان عمرو بن بحر، المشهور بالجاحظ الذي عاش في القرنين الثاني والثالث للهجرة من جهة، وأبي الفتح، محمد عبد الكريم الشهرستاني، المتكلم والفيلسوف الأشعري، المعروف بميله إلى الموضوعية والحياد والذي عاش في القرنين الخامس والسادس للهجرة·
أما الجاحظ فقد فرض عليَّ نفسه هنا، في الموضوع الذي نتكلم فيه، من خلال نص له مشهور تناول فيه الفروق الثقافية بين الشعوب التي ساهمت في تكوين وتشكيل فضاء الثقافة العربية، إلى عهده· يقول في هذا النص:''إن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم (اليونان والرومان) فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة ومشاورة ومعاونة، وعن طول تفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفِكَر عند آخرهم· وكل شيء عند العرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو (العربي) أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر(...)، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالا، وتنثال الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيده على نفسه ولا يدسه أحد من ولده(···)· وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب'' (الجاحظ: البيان والتبيين)·
العرب، الفرس، العجم، ثلاثة أقوام، أو أجناس، لكل منها طريقة في إنتاج المعرفة· ومع أن الجاحظ قد ساق ملاحظاته هذه في إطار الإشادة بالعرب والرد على الشعوبية (وهم من الفرس والعجم)، فإن ما يهمنا هنا هو هذا التمييز الذي أقامه بين ثقافات أجناس ثلاثة (هي العرب، والفرس، واليونان/ الرومان): ثقافات متعايشة في فضاء حضاري واحد يجمع بين ما نسميه اليوم بـ''الشرق الأوسط'' وبـ''حوض البحر الأبيض المتوسط''، وهما متجاوران متصلان· صحيح أن صاحب ''البيان والتبيين'' يضع العرب في جانب والفرس والعجم في جانب، ولكن هذا لا يعني أنه يوحد بين ثقافة الفرس وثقافة العجم الذين قصد بهم اليونان أساساً· هو يوحد بينهما فقط من حيث إنهما الطرفان اللذان كانا ينافسان العرب خلال ذلك الاحتكاك الشديد، بين مكونات الثقافة العربية، الذي عرفه الفضاء الحضاري الذي نشأت فيه هذه الثقافة وساهمت في إعادة تشكيله في العصر العباسي الأول (150-350 هـ)، إنه الاحتكاك المعروف تاريخيا باسم ''الشعوبية'' (نسبة إلى الشعوب غير العربية التي أسلمت ودخل مثقفوها في مفاخرات خطابية مع المثقفين المنحدرين من القبائل العربية)·
ويأتي الشهرستاني وقد هدأ الصراع مع الشعوبية، ليؤلف كتابا بعنوان ''الملل والنحل''، وهو عنوان له دلالة خاصة بالنسبة لموضوعنا· فالفضاء الحضاري للثقافة العربية لم يعد فضاء خاصا بالعرب الذين جاءوا بأشعارهم وأخبار أيامهم يحملون رسالة الإسلام إلى الناس كافة، ويواجهون تحركات ''الشعوبية'' كما كان الحال زمن الجاحظ (القرن الثاني للهجرة)، بل لقد صار زمن الشهرستاني -في القرنين الخامس والسادس- فضاء يتزاحم داخله ما لا يحص