قامت بريطانيا في الآونة الأخيرة بنشر وثائق حرب فوكلاند، مما أدى إلى تجدد الجدل حول سبب نشوب تلك الحرب، التي وصفها الأديب الأرجنتيني العالمي '' بورخيس'' ذات مرة بأنها كانت أشبه بمعركة تدور بين شخصين أصلعين على مشط شعر· وكان الكثيرون في بريطانيا قد وصفوا تلك الحرب بأنها كانت حرباً غير مهمة قامت بها قوة إمبريالية عفا عليه الزمن· غير أن هناك قلة، نظرت إلى تلك الحرب على أنها حرب دارت دفاعا عن القانون الدولي والنظام بين الأمم، وأنها بذلك تعتبر حرباً من أجل فرض السلام، أو فرض النظام والقانون· ويذكر في هذا السياق أن مجلس قيادة الثورة الذي كان قد حكم الأرجنتين منذ الانقلاب الذي قام به عام ،1975 كان قد دأب على إثارة المشكلات لصرف الأنظار عن الجرائم التي يقوم بارتكابها بحــــق الشــــعب الأرجنتيني، وأنــــه قــــد قــــــام في هــــذا الإطـــــار- و دونما استفزاز - بغزو جزر الفوكلاند (التي تطالب بها الأرجنتين والخاضعة للتاج البريطاني منذ عام 1832)·
ويمكن تشبيه الغزو الذي قام به الجنرالات الأرجنتينيون لجزر الفوكلاند بذلك الذي قام به صدام حسين للكويت، وهو أيضا غزو غاشم بني على مزاعم تاريخية واهية حيث ادعى صدام أن الكويت كانت تابعة للعراق عندما كان ولاية عثمانية، وذلك قبل أن تتأكد سيادتها دوليا بعد ذلك عام ·1961
ولتحرير الكويت من الغزو العراقي، قامت الولايات المتحدة الأميركية بتكوين تحالف دولي مصدق عليه من قبل مجلس الأمن الدولي وكان هذا في صميمه إجراء يهدف إلى خلق النظام وإقرار القانون كذلك·
بيد أن الجزء الأكثر أهمية من قصة فوكلاند، هو ذلك الذي حدث بعد هزيمة الأرجنتين عسكريا وانسحابها من تلك الجزر عام ·1982 ففي سنوات الحكم العسكري الديكتاتوري في الأرجنتين، قام النظام بتغييب ما يتراوح ما بين 13 ألفاً إلى 15 ألفاً من المواطنين الأرجنتينيين،الذين كان يعتبرهم ''مناوئين'' له، والذين تكشف فيما بعد أنه قد قام بقتلهم· كما شارك الجنرالات الأرجنتينيون في ذلك الوقت أيضا في تكوين ما يعرف باسم حلف ''كوندور'' مع الجنرال ''بينوشيه'' حاكم شيلي، ومع النظام البرازيلي الفاسد وقتها وهو حلف كان الغرض منه في الأساس تعقب المناهضين لتلك الأنظمة في مختلف أرجاء المنطقة·
غير أن هزيمة الجنرالات الأرجنتينيين المذلة، وباهظة التكاليف أمام القوات البريطانية الأفضل تنظيما وقيادة، أدت إلى سقوط نظامهم· وعقب ذلك أجرت الأرجنتين انتخابات حرة عام 1983 وتمت استعادة النظام المدني فيها·
أما البرازيل فإن عشرين عاما من الحكم الفاسد وسوء الإدارة الاقتصادية أدت في النهاية إلى تقويض حكم الجنرالات هناك· وفي شيلي أخلى النظام العسكري الفاسد الطريق لحكومة مدنية في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي·
والواقع أن مؤيدي حرب فوكلاند في بريطانيا - دعك من المناوئين لها- قد قللوا من قدر (الأثر التحريري) الذي أحدثته تلك الحرب على أميركا اللاتينية، التي لم تعد الأنظمة العسكرية مقبولة فيها بعد تلك الحرب·
ومن عجب أن إدارة جورج بوش الابن لم تستشهد بنموذج حرب فوكلاند في معرض التدليل على صحة الحجج التي ساقتها لتبرير غزو العراق، وعلى رأسها تغيير المناخ السياسي في المنطقة· وفي الحقيقة أنه كانت هناك ثلاث عقبات حالت دون أن يكون لهذه الحرب أثر تحريري على المنطقة مماثل لذلك الذي كان لحرب فوكلاند· العقبة الأولى، أن هدف بوش الأساسي من غزو العراق كان السيطرة على ثرواته، وتنصيب حكومة موالية للولايات المتحدة ومحققة لمصالحها وهو هدف يقوض حجة نشر الديمقراطية·
أما العقبة الثانية فهي أن أميركا قد عجزت عن التعامل مع حالة الفوضى التي سادت عقب انتهاء الحرب، مما نتج عنه دخول البلاد في حالة من الاضطراب والتمرد، التي نتج عنها مصرع عشرات الآلاف من العراقيين، وانتشار البؤس والفقر، وهو وضع يحتاج العراق إلى جيل كامل حتى يخرج منه·
أما العقبة الثالثة التي حالت دون أن يكون لهذا الغزو تأثير سياسي إيجابي على المنطقة، فهي أن نموذج السلوك الذي فرضته الإدارة على الجيش الأميركي هناك يشبه نموذج السلوك الذي كانت تنتهجه الطغمة العسكرية الحاكمة في الأرجنتين قبل حرب فوكلاند·
وفي الحقيقة أن ممارسة إدارة بوش للتعذيب تستدعي إلى الأذهان ممارسات الديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية، وميلها إلى استخدام المنطق التوتاليتاري·
قليلون هم الذي يفهمون سبب لجوء القوات الأميركية في العراق إلى ممارسة التعذيب - في بعض الأحيان إلى حد الموت- وإلى الإساءة المنظمة للسجناء والمعتقلين، على الرغم من أن هذا السلوك نفسه كان هو السبب في قيام الحلفاء الغربيين بمحاكمة ضباط النازية، وقادة معسكرات الاعتقال اليابانية عام ·1945 فهل لدى بوش ورجاله في الإدارة معرفة بهذا التاريخ؟
علاوة على ذلك تبنت الإدارة منطقا توتاليتاريا مماثلا كشف عنه نائب مستشار البيت الأبيض المدعو ''تيموثي ئي فلانجيان'' عندما سأله سيناتوران جمهوريان كبيران عن المعيار الذي تستخ