نتحدث طويلاً وكثيراً عن القيم الإيجابية للمأسسة وكيف أننا ومن خلالها سنحقق التنمية المنشودة والتي هي في المحصلة النهائية نتيجة طبيعية لعمل المؤسسات، ولكننا في الوقت ذاته نعمل بشخصنة غريبة ومدمرة، ونرى في المأسسة النضج والديمومة وروح هذا العصر، ولكننا لا نتبناها بمنهجية منظمة، بل ونكرس لسلطة الأفراد ونفوذهم ونجعل ارتباطهم بالكراسي والمناصب أمراً طبيعياً وكأننا في زيجات كاثوليكية من المستحيل فك وثاقها· هذه الثنائية في التعامل مع المأسسة كقيمة نصبو إليها وتوجه لا نعمل له تمثل عقدة مهمة في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه·
ومع أننا ندرك أن المستقبل هو للمؤسسات لا لمزاج الأفراد وسطوتهم ونفوذهم، إلا أننا ما زلنا نرى المؤسسات من خلال الأفراد ونعتبرها مناطق نفوذ طبيعية لهم تقوى بقوتهم وتضعف بضعفهم، نحمل هذه الأفكار المعرقلة للتنمية برغم إدراكنا أن في المأسسة أسس المجتمع العصري والديناميكي والذي يوفر لأفراده المساواة والعدالة والشفافية، وللأسف تبدو الفجوة بين ما ندعو إليه وما نعمله هوة سحيقة من الصعب ردمها· واليوم، وفي عالمنا العربي وفي خليجنا العربي، نجد كل ما حولنا مرتبطاً بفرد أو أفراد، ونجد أن هذه الشخصنة تجاوزت المساحة السياسية لتطال كافة جوانب المجتمع حيث يهيمن ظل الفرد ويصبح الشأن ذاته مرتبطاً بهذا المتنفذ أو صاحب النفوذ ذاك·
ونرى هذا الجانب في ارتباط العديد من القطاعات والمؤسسات ارتباطاً عضوياً بظاهرة الشخصنة، فيصبح انطباعنا العام عن نفوذ المؤسسة والقطاع مرآة لنفوذ الشخص، بل وفي العديد من الحالات نجد أن الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة للمؤسسة تمر بمد وجزر مرتبط بقوة الشخص ومدى رغبته في النجاح، بل وفي العديد من الحالات نجد أن تعامل الصحافة والإعلام مع نفس المؤسسة يتغير تغيراً جذرياً في نسبة وتناسب مع رأس المؤسسة والقطاع· وهناك العديد من الحالات التي لبست فيها الأقلام الصحفية قفازاتها المخملية نتيجة لمثل هذه الحسابات التي تسود في مجتمعاتنا العربية·
وكما أشرنا نجد أن هذه الشخصنة تجاوزت الجانب السياسي لتطال العديد من الجوانب الأخرى، فطالت فيما طالت الاقتصادي والاجتماعي بل والرياضي· فالعديد من المشاريع الاقتصادية، على سبيل المثال، تسيست، إن صح التعبير، بسبب قوة عرابها وبالتالي أصبح من الصعب تقييم فكرتها أو التعليق على أدائها أو حتى محاسبة القائمين عليها· ومثل المشاريع والشركات التجارية امتدت الظاهرة لتشمل مؤسسات اجتماعية هي الأخرى تم تسييسها وشملتها الشخصنة كما غزت الشخصنة الحياة الرياضية وأصبحت في العديد من الحالات الرياضية أكثر حساسية من السياسة·
وفي طرحنا هذا ندرك أن طريق النهضة والتقدم والحداثة لا يمكن أن يمر من خلال المبالغة في دور ونفوذ الأفراد على حساب المؤسسات أو من خلال اعتبار النجاح والرؤية مرتبطين بإلهام فرد أو قدرته على رسم وتبني برنامج تنمية وتحول ناجح، وهنا لا نلغي بطبيعة الحال دور الأفراد ومساهماتهم ورؤيتهم، ولكن مسيرة التنمية والحداثة لا يمكن أن تكون فوقية، ولكنها تبقى عملية متحركة ضمن إطار مؤسسي ديناميكي يضمن أن البرنامج عبارة عن شراكة مجتمعية تضم الصغير والكبير والقوي والضعيف· ففي مثل هذه المقاربة نضمن أن الاقتناع بالبرنامج، وبالتالي استمراريته، تتجاوز العمر الافتراضي أو البيولوجي للأفراد، وبينما يرى البعض أن البديل هو قناعة والتزام النخب إلا أن المؤسسات برأيي هي التي تضمن الاستمرارية وتتجاوز الخطوط الاجتماعية الفاصلة بين النخب والسواد الأكبر من المواطنين·
تبقى المقاربة التي تقول بأهمية المؤسسات في قيادة عملية التنمية ضرورة في الفترة الحالية في عالمنا العربي، وهي اليوم أكثر ضرورة من السابق لأن الفجوة التنموية بين عالمنا والعديد من مناطق العالم الأخرى آخذة في الاتساع، ومثل هذا التوجه والذي نتبناه لفظياً لن ينجح ما دمنا نربط ربطاً لا يميز بين المؤسسة وعملها وأدائها والشخص القائم عليها·