لا توجد حتى الآن أدلة على "حتمية" قيام حرب أهلية مذهبية في العراق، كما يتخوف البعض، ولكن الأوضاع الطائفية متأزمة كما لا يخفى. فمن جانب تواصل "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، بزعامة الإرهابي الأردني أبومصعب الزرقاوي، بث سمومها التكفيرية ضد الشيعة، وتواصل جرائمها ضد الأبرياء. وفي آخر بيان لها طالبت بتطهير العراق من الشيعة مهما كان عددهم: "لا يخفى عليكم أيها الأخيار ما فعله ويفعله أحفاد ابن العلقمي من الروافض الكفار وتحالفهم مع أسيادهم ضد المسلمين في هذه الأرض، فأعينونا في تطهير البلاد من كفرهم وفجورهم.. إن دماء وأموال الشيعة أحلها الإسلام.. والإعانة على قتلهم دعم للجهاد، بل هو قربة لدخول الجنة وثأر لما فعله هؤلاء الكلاب بإخواننا وأخواتنا".
ومن جانب آخر، تصب مثل هذه النداءات الدموية في طاحونة التيارات الشيعية الانعزالية والمتخوفة، وبخاصة أن إدانة الهيئات الإسلامية السنية العراقية والعربية ضد الزرقاوي وجرائمه إما ضعيفة أو لا وجود لها تقريباً.
الكل يعرف بالطبع أن الزرقاوي ليس من المعجبين بسنة العراق وفقهائها وأعلامها، بعد أن قال فيهم ما قال في رسالته الموجهة إلى ابن لادن. والكل يعرف أن هذا الزعيم الإرهابي، أبومصعب الزرقاوي، متحالف مع قوى الظلام ورجالات وأجهزة النظام المدحور، ممن لا علاقة لهم بالإسلام والتقوى والسنة النبوية.
والكل يعرف كذلك، كما جاء في مقال صحفي، "أن الزرقاوي حين يعلن الحرب على الشيعة في عموم العراق، فإنه بالقطع يؤذي السنة ولا يخدمهم: يؤذيهم بتحميلهم تبعة ما لم يقترفوا، ويؤذيهم باستنفار الشيعة ضدهم، ويؤذيهم بتعريضهم للانتقام.. ومن المقطوع به كذلك، أن سنة العراق لم يفوضوا الزرقاوي وأمثاله لكي ينوب عنهم في قول أو عمل، بدليل أن القيادات السنية البارزة وذات الوزن انتقدت مجازر الكاظمية ودانتها بقوة وحسم".
ولكن الجرح العراقي الشيعي أعمق في الواقع من أن تداويه هذه الإدانات. ولا يزيد الموقف العربي خارج العراق هذا الجراح إلا التهاباً!
شيعة العراق في هذه المرحلة كذلك، لسوء حظهم، محصورون بين فكي الكماشة العربية-الإيرانية.
جميع الجيران خائفون متوجسون من دستور العراق وديمقراطيته وتنوعه الديني المذهبي السياسي، ولكل طرف على الجانبين سياسة خفية وأخرى معلنة. يقول مثل عراقي ساخر: "واحد محترقة لحيته وواحد يريد يشوي عليها كباب"!
ثمة الآن على الأقل ثلاثة توجهات شيعية في العراق:
1- التوجه الإيراني الذي يريد سحب البساط بأي ثمن من تحت أرجل الولايات المتحدة، وإقامة منطقة شيعية آمنة في جنوب العراق، صديقة لطهران على المدى الاستراتيجي. ويتهم الباحث الإيراني المعارض علي نوري زادة السلطات الإيرانية بإرسال آلاف الرجال العسكريين والمدنيين ورجال الدين وغيرهم إلى العراق بعد سقوط النظام. ويضيف أن الاستخبارات الإيرانية اشترت وأجّرت ما يزيد على خمسة آلاف بيت وشقة ودكان ومستودع ومكتبة ومسجد ومطعم ومحطة بترول في البصرة والديوانية والعمارة والكوفة والنجف وكربلاء والكاظمية وبغداد، ليقيم ويعمل فيها ومنها عناصر استخباراتها ورفاقهم "البدريون"، وفصيل من "حزب الدعوة" معارض للدكتور إبراهيم الجعفري".
2- جماعات وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي وقياداته وميليشياته وجمهوره، وهؤلاء تتجاذبهم خيوط وحبال عديدة: الواقع العراقي الجديد بعد سقوط النظام وما يعج به من مشاكل وضغوط ومطالب، السياسات الإيرانية والعربية، المصالح الشخصية والحزبية والمغريات المالية والإدارية والوزارية... ولا يعني هذا بالطبع أن تتحكم بكل هذه الجماعات المصالح والأنانيات الضيقة، فلقد لعب بعضها دوراً أساسياً في مصارعة ديكتاتورية النظام السابق وإسقاطه وإنجاح الانتخابات والمساهمة في إدارة الدولة بعد تغير الوضع عام 2003، والصمود في وجه إرهاب عاتٍ ليس له مثيل.
3- الأوساط الشيعية العراقية الليبرالية والاندماجية غير المرتبطة بولاية الفقيه الإيرانية أو مصالح الإسلام السياسي الشيعي. وهؤلاء بدورهم، كما سنة العراق من أمثالهم، يجدون أنفسهم في صراع متصل من أجل تحقيق الاستقرار وعودة الخدمات وتطور الاقتصاد وازدهار البلاد. والكثير من هؤلاء، إن لم نقل جميعاً، من دعاة الوحدة الوطنية العراقية ومن أشد المعارضين للتوجهات الطائفية، إذ لا يخفى أن عدداً كبيراً من مثقفي وفناني ومبدعي العراق، رجالاً ونساء، هم من شيعة العراق، ممن نجحوا عبر سنين طويلة، وبالتعاون مع السنة العرب والأكراد والتركمان، في بناء تماسك وطني يزداد صموداً في وجه وحشية الإرهاب. وقد جسّد هذا التماسك الوطني بطل مثل عثمان العبيدي، من سنة العراق، الذي ضحى بحياته في كارثة جسر الكاظمية لإنقاذ عدد كبير من الشيعة الذين أوشكوا على الغرق، فتحول بذلك إلى رمز خالد لن ينساه السنة والشيعة على حد سواء.
الأحزاب السنية العراقية، كالحزب الإسلامي، رحبت بتصريحات وتحذيرات المملكة العربية السعودية ضد السياسة الإيرانية في الجنوب العراقي. وأعلن "مجلس الحوار الوطني ال