لفترة طويلة، سيطرت على العالم العربي بدرجة كبيرة فكرة مفادها أن التآمر الخارجي والحروب التي فرضت على العرب من القوى الأجنبية، عرقلت تقدمهم وأضعفت قوتهم واستهلكت مواردهم، وأنه لولا ذلك لكان لنا شأن كبير·
إلا أن نظرة فاحصة مدققة يمكن أن تكشف بسرعة عن أن أصل الداء في معظمه ربما كان من الداخل ·· نعم، من الجذور، أو لنقل من داخل الدار وليس من خارجها·
لقد تجاهلت المجتمعات العربية طويلا تناقضات داخلية صارخة أخذت تعتمل على مدى سنين في داخلها، وتركتها تتفاقم وتتقيح، أكثر فأكثر تحت شعارات وهمية كثيرة، من شاكلة·· الكل في واحد ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة ·· الى آخر سلسلة هذه الشعارات الكلاسيكية التي سجنت بين مبتدئها وخبرها كل آمال الناس وطموحاتهم ومعاناتهم وأوجه التمايز البشري بينهم·
من هذه الزواية، يكتسب الاستفتاء على ما يعرف باسم ميثاق السلم والمصالحة في الجزائر اليوم أهمية قصوى، ليس بالنسبة للجزائر فحسب، بل لأجزاء كبيرة من العالم العربي· لأن هذا المشروع الذي قاده بجسارة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ربما كان من أبرز وأهم المصالحات السياسية التي شهدها العالم العربي منذ سنوات بعيدة·
نعم، تعرضت الجزائر لموجة عنف رهيبة حصدت الالاف· وخاض البلد بأسره تجربة مريرة وشرسة من العنف والعنف المضاد بصورة ربما لم تحدث في بلد عربي آخر على هذا النحو· إلا أن التجربة الجزائرية على شراستها ودمويتها تظل استنادا الى عناصرها الأولية الخام، نموذجا صالحا للقياس عليه في العالم العربي·
بمعنى أنها قد تكون تكرارا أو ظلا، لحالات مماثلة من التناقض الحاد والاستقطاب الصارخ في مجتمعات عربية أخرى·
صحيح أن تلك المجتمعات لم تتطور تناقضاتها الى حد المواجهات المسلحة على الطريقة الجزائرية إلا أن ذلك ربما يرجع بالأساس الى بعض الاعتبارات والعوامل التى عطلت التفاعلات التقليدية التي تؤدي الى المرحلة قبل الاخيرة من التجربة الجزائرية·
أيا ما كان الأمر، فالمهم أن القيادة الجزائرية كانت من الشجاعة والبصيرة بحيث أدركت ضرورة المضي قدما في مشروع المصالح من أجل فتح صفحة جديدة وبشروط يرضى عنها الجميع ولا تعني أبدا إفلات مجرم في حق المجتمع بجرمه·
لأشد ما تحتاج المجتمعات العربية الآن الى هذه الروح وتلك المبادرة· لأن أقسى وأخطر تحد تواجه في اللحظة الراهنة هو روحها الداخلية· ولا يمكن لهذه الروح أن تبدع وتبتكر وتتفاعل مع المجتمع الانساني في نطاقه العريض بصورة خلاقة وطبيعية، إلا بعد تسوية مشاكلها الداخلية· باختصار المجتمعات العربية تحتاج قبل أن تتصالح مع العالم الى التصالح مع نفسها·