يطرح التصعيد الإسرائيلي في مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عدة تساؤلات تهم مستقبل عملية السلام برمتها بين الإسرائيليين والفلسطينيين. والسؤال المركزي الذي يشغل بال الفلسطينيين اليوم: ماذا بعد هذا التصعيد وماذا بعد الانسحاب من غزة؟ فهل كان الانسحاب بداية الطريق نحو تنفيذ "خريطة الطريق" كما يريدها المجتمع الدولي والسلطة الفلسطينية، أم هي نهايته كما يريدها الإسرائيليون ليتفرغوا بعد ذلك للاستيلاء على أهم مناطق الضفة، وضم الكتل الاستيطانية الضخمة إليها، واستكمال بناء الجدار الفاصل، وتهويد القدس، وبالتالي الحؤول دون تمكين الفلسطينيين من التواصل الحر والطبيعي؟ إن الفارق بين النوايا الفلسطينية والإسرائيلية هو فارق كبير وشاسع. فمنذ الإعلان عن خطة فك الارتباط الإسرائيلية والانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة في نهاية عام 2003 أعلنت الحكومة الإسرائيلية في تحدٍّ صارخ للجنة الرباعية و"خريطة الطريق" عن إقامة ثمانية مخططات استعمارية/ "استيطانية" جديدة، بالإضافة إلى مضاعفة مساحة بلدية القدس من (67) كيلومتراً مربعاً إلى (76) كيلومتراً مربعاً أي تكريس إنشاء ما يسمى بـ"القدس الكبرى".
والأخطر من ذلك كله يتجسد في نية إسرائيل ربط القدس بمستعمرة/ "مستوطنة" معاليه أدوميم من خلال طريق التفافي ضخم رغم المعارضة الأميركية. ومن شأن ذلك إذا ما تم تنفيذه عزل القدس الشرقية عن محيطها العربي ووصلها بإسرائيل، الأمر الذي يفرض أمراً واقعاً جديداً على الأرض. وثمة مشاريع استعمارية إضافية رصدت لها إسرائيل المخصصات المالية اللازمة في ميزانية العام القادم 2006. ومن بين هذه المخططات مشروع "استيطاني" داخل البلدة القديمة ومشروع القاطع الشرقي الذي يربط مستعمرة معاليه أدوميم بمستعمرة جبل أبو غنيم، بالإضافة إلى توسعة الكتل "الاستيطانية" الضخمة التي تحيط بالقدس العربية مثل "مستوطنات" معاليه أدوميم، جبل أبو غنيم، وذلك من خلال بناء خمسة آلاف وحدة سكنية جديدة فيها. ويكفي العلم بأن "المستوطنات" الإسرائيلية في الضفة تغطي ما مساحته (7.4%) من مساحتها الكلية وأن إسرائيل تسيطر على (28.5%) من مناطق وادي الأردن، وما يتبقى من مساحة الضفة هو المتاح لقيام "دولة فلسطينية" عليها علماً بأن ذلك يبدو شبه مستحيل بسبب امتدادات واختراقات "المستوطنات" الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى تقطيع أوصال الضفة إلى كانتونات منعزلة بدون أي تواصل جغرافي بينها.
ورغم تخوف الفلسطينيين من خطة الفصل الأحادي، فإنهم تعاملوا معها بمرونة وبقدر كبير من المسؤولية. فهم يرون فيها ثمرة لتضحياتهم وصمودهم الأسطوري الذي امتد إلى أكثر من خمسة أعوام كي لا نقول (38) عاماً من الاحتلال. أما الهدف من وراء الإعلان عن هذه المخططات "الاستيطانية" والبدء في تنفيذها فهو التأكيد على أن خطة الانسحاب من غزة ما هي إلا خطة تكتيكية للتمويه على إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في المناطق الأكثر أهمية لإسرائيل في الضفة والتوسع في استعمارها وتهويدها للحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً وحسم موضوع القدس والكتل "الاستيطانية" الضخمة المحيطة بها بشكل مبكر لفرض أمر واقع جديد تمهيداً لإخراجها من مفاوضات "الحل النهائي". وفي مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 10/8/2005، قال شارون بالحرف الواحد: "إن الكتل الاستيطانية في الضفة ستبقى قائمة، وسيتم وصلها جغرافياً بإسرائيل ولن نتفاوض بأي شكل من الأشكال حول القدس كما لن تكون هناك عودة للاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل". وأضاف قائلا: "لقد قلت كل ذلك للأميركيين وبوضوح تام، وهذا الأمر وارد في اتفاق بيني وبين الرئيس بوش". والحال كذلك، فإن الأمر الواقع الذي تقيمه إسرائيل بشكل محموم في القدس والضفة الغربية لن يترك شيئاً للتفاوض عليه في مفاوضات الحل النهائي إذا قدر لها أن تبدأ بعد 10 أو 20 سنة، وإنما ستقتصر مهمة تلك المفاوضات على الإقرار بما فرضته إسرائيل بالقوة من جانب واحد. ويظهر الموقف الأميركي توافقاً معيناً مع الموقف الإسرائيلي. فالمطلوب الآن أميركياً هو فترة زمنية "لإعادة بناء الثقة" بين الطرفين مع دعوة الفلسطينيين إلى إنهاء العنف والإرهاب بكل أشكاله وكأن الإرهاب فلسطيني ولا علاقة لإسرائيل به! وفي هذا السياق، صرحت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بأنه "لا يمكن السماح باستمرار تواجد المنظمات الإرهابية إلى الأبد، فهناك التزام في خريطة الطريق بتفكيك البنية التحتية لهذه المنظمات". وقد أكدت "اللجنة الرباعية" في اجتماعها الأخير على هذه النقطة بالذات التي هي بمثابة دعوة إلى الفلسطينيين للاقتتال الداخلي. هذا، مع العلم بأن عدداً من المحللين يقولون إن هذا "التطابق" مع الموقف الإسرائيلي (أميركياً بالذات، وأوروبياً أيضاً) إنما يأتي (على الأقل مؤقتاً) لدعم شارون في معركته مع نتنياهو!! وبخاصة أن شارون هو "الشجاع" الذي نجح في تفكيك مستعمرات غزة وسحب الجيش الإسرائيلي منها!!
وبالرغم من