ما هي أهم الأفكار التي يتبناها زعماء "السلفية الجهادية"؟ وكيف يبلغون رسائلهم؟ وما هي العلاقة بين الرسالة وقنوات إيصالها؟ وهل تؤثر تلك القنوات في مضمون الرسالة نفسها؟ هذا ما يحاول أن يجيب عليه كتاب صدر مؤخراً في فرنسا وأشرف على تأليفه الباحث الفرنسي المخضرم المتخصص في الحركات الإسلامية والأستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس جيل كيبل. فقد قام الباحث، في محاولة منه لفهم الجذور الفكرية التي تحرك "القاعدة" وتؤسس لعملها الميداني، بترجمة بعض كتابات وأقوال أسامة بن لادن وعبدالله عزام وأيمن الظواهري، ثم أبو مصعب الزرقاوي بهدف تسليط الضوء على الزوايا المعتمة من البناء النظري الذي تعتمد عليه "القاعدة" وكشف نسقها العقائدي. إنها دراسة متأنية لأدبيات تنظيم "القاعدة" التي خطها قادتها بأنفسهم والموجهة إلى دائرة المتعاطفين معهم في مختلف أصقاع المعمورة. فقد تعلم الباحثون من خلال دراستهم للظواهر السياسية أو الاجتماعية المختلفة أن أول خطوة في التحليل هي عقلنة الظاهرة عن طريق دراسة خطابها الأيديولوجي ووضعها في سياقها التاريخي. ولعل هذا ما حاول كيبل أن يقوم به عبر دراسته للكتابات المؤسسة لخطاب القاعدة محاولا تقديم لمحة للقارئ الغربي عن هذا الخطاب الذي يستعصي عليه فهمه، وإحالته إلى السياق التاريخي الذي أنتجه.
ويبدأ جيل كيبل بمعالجة مسألة بروز "القاعدة" في أدبياتها عبر ما يكتبه أفرادها مؤكداً أنها تطرح مشكلة بالنظر إلى تواري المنظمة عن الأنظار وتفضيلها للعمل السري. وخلافاً للحركات الماركسية التقليدية التي غالباً ما تعتمد على مطبوع معين تروج من خلاله لأيديولوجيتها، فإن "القاعدة" تتميز بتعدد مصادر تواصلها مع الجمهور إذ تعتمد على النصوص المنشورة على شبكة الإنترنت، والعمليات الإرهابية المصورة في إحداث الأثر وإيصال الرسالة إلى الرأي العام. ويندرج هذا الأسلوب التواصلي في إطار محاولة "القاعدة" تفادي الفشل الذي منيت به الحركات الإسلامية في التسعينيات في كل من مصر والجزائر، وعجزها عن تعبئة فئات عريضة من الشباب المسلم. وفي هذا السياق يمكن فهم التنويع الذي تعتمد عليه "القاعدة" في طرح أفكارها، فهي تارة تظهر أدبياتها على صفحات المواقع الإلكترونية على الإنترنت، وتارة أخرى تتسرب إلى القنوات الفضائية على شكل أشرطة مصورة. وإذا كان الهدف الرئيسي من وراء ظهور "القاعدة" أمام الجمهور وتصوير عملياتها العنيفة هو زرع الخوف والهلع في قلوب من تعتبرهم أعداءها، إلا أن وراء تلك الصور التي تنقلها شاشات التلفزيون أيديولوجية متشعبة تميز "القاعدة" عن باقي الحركات الإسلامية، وهي ذات الأيديولوجية التي يتعين فهمها ورصد تفاصيلها. غير أن النصوص المنشورة على الإنترنت تطرح مشكلة الوقوع في شرك التضليل، خصوصاً مع صعوبة التحقق من صحة ومصداقية تلك النصوص. ولولا وجود الأشرطة المصورة التي يظهر فيها زعماء "القاعدة" وهم يلقون خطبهم، لما تمكن الدارسون من أمثال جيل كيبل وطلبته من إخضاع تلك النصوص لمنهج التحليل البنيوي بعد مقارنتها بالصور.
ويسعى المؤلف كذلك في كتابه إلى نقل صراع التأويلات الموجود حول الإسلام إلى القارئ الغربي من خلال إبراز دور "القاعدة" كطرف في الصراع المحتدم بين الراديكاليين من جهة والمعتدلين من جهة أخرى. لذا يركز المؤلف على علاقات القوة التي تجمع بين "القاعدة" ومنظريها الذين يؤصلون لـ"الجهاد" كمنهج في تغيير الواقع سواء على الساحة الدولية في التعامل مع الغرب، أو في الساحة الداخلية في العالم الإسلامي من خلال العنف الموجه ضد الأنظمة، وبين الإسلام المعتدل الذي ينأى بنفسه عن العنف كأسلوب للاحتجاج. بيد أن "القاعدة" من خلال اعتمادها على تكنولوجيا الاتصال واستفادتها من الإنترنت تحاول أن تفرض تفسيرها الخاص للإسلام وإيصاله إلى شرائح واسعة ممن تستهدفهم. وبخصوص العلاقة بين "القاعدة" والوسائل التكنولوجية التي تعتمد عليها يقول جيل كيبل "إنه لا يمكننا فهم إيديولوجية القاعدة بمعزل عن قنوات إرسالها". ويضيف أن أهم ما ترمز إليه الإنترنت في عمليات "القاعدة" هو انتفاء مفهوم الزمن واختزاله إلى اللحظة الراهنة، حيث بإمكان المتعاطفين أن يتصلوا فورياً بالزعماء ويتلقوا التعليمات، فضلا عن اطلاعهم المستمر على آراء زعماء "القاعدة" دونما حاجة إلى وسيط.
ويواصل جيل كيبل الحديث باستفاضة عن مركزية وسائل الاتصال الحديثة في الدعاية لخطاب "القاعدة" وانتشار أيديولوجيتها بين بعض فئات الشباب. وتصل هذه العلاقة العضوية بين "القاعدة" والإنترنت، في نظر كيبل، إلى حد يسمح بتسميتها بـ"العلاقة الوجودية"، حيث يؤكد أنه لا وجود لـ"القاعدة" خارج الإنترنت وقناة "الجزيرة". وفي هذا الإطار يستشهد جيل كيبل بالنص المنسوب لأيمن الظواهري الموسوم: "فرسان تحت راية النبي"، الذي يسعى من خلاله إلى حشد الأتباع، والزعم بـ"عدم تكرار أخطاء الحركات الإسلامية" في سنوات التسعينيات عندما ركزت على الطبقات الوسطى من المجتمع وأغفلت الفئا