ما هو الغرب، وكيف تصوره الروس السوفييت؟ ومن هم اليهود الروس، وما دورهم في الثورة البلشفية وفيما بعدها؟ وكيف ينظر الروس إلى الإسلام؟ وكيف تعاملت موسكو مع أحداث 11 سبتمبر وماذا كسبت من الحرب على الإرهاب؟ تلك هي الأسئلة الرئيسية التي يحاول الإجابة عليها كتاب "روسيا من الداخل" لمؤلفه الدكتور نوفل نيوف من خلال معايشته عبر سنوات طويلة لما كتبه باحثون ومفكرون روس.
وفي المحور الأول من محاور الكتاب الأربعة، يستعرض المؤلف ذلك الجدل الحاد الذي انطوت عليه علاقة روسيا بالغرب، موضحاً أنه لئن كانت روسيا قد اعتنقت المسيحية منذ القرن العاشر الميلادي، واختارت المذهب الأرثوذكسي مقتدية بالكنيسة البيزنطية الشرقية، فإن صراعها بصدد اختيار طريق للتطور الحضاري، تمثلاً بأوروبا أو احتفاظاً بالخصوصية السلافية. كان صراعاً شاقاً وطويلاً يمثل في جوهره مجمل التاريخ الروسي على امتداد القرون الثلاثة الماضية، وهو موضوع تنشغل به أجيال اليوم الروسية. وفي هذا السياق يرسم المؤلف وجوه مدار الرؤية إلى الغرب في روسيا الراهنة، مستعرضاً آراء عدد من الكتاب والمفكرين والمؤرخين الروس. ففي مقالة نشرها أواخر عام 1997 يستعرض الباحث أناتولي أوتكن موقف الحركة الشيوعية الروسية من الغرب وعلاقتها به قبل وبعد ثورة 1917، وكما يقول أوتكن، فقد كان البلاشفة حزباً غربياً إلى أبعد الحدود، وكانوا ينتظرون الأوامر والتوجيهات من الاشتراكيين الديمقراطيين في ألمانيا. إلا أنه عقب هزيمة حملتهم عبر بولندا إلى برلين، وإخفاق الانتفاضة في دول وسط أوروبا بين عامي 1919 و1924، شرع البلاشفة ينتقدون الغرب بلا هوادة؛ فأصبحت الماركسية "المروسة" تمثل أيديولوجيا طبقة تنافس الغرب بينما تأخذ عنه جميع إنجازاته.
وكما كان الروس أول من ترجم كتاب "رأس المال" عن الألمانية، فقد تخلوا في عهد غورباتشوف عن الماركسية ليقفزوا إلى نظام السوق كآخر كلمة نطقها الغرب. إلا أنه، كما يقول ألكسندر كوستاريوف، من النادر اليوم أن نعثر لدى الروس على تصورات واضحة حول الغرب، فبعد أن جعلوا منه أسطورة كان لها تأثيرها الهائل في مجمل تاريخ ما بعد البيروسترويكا، فإنه تحول في السنوات الأخيرة بالنسبة لغالبيهم إلى شيء عادي تماماً.
ويقول بوريس كاغرليتسكي: لقد "انضممنا إلى الغرب، إلى شبكاته ومعاييره وبرامجه، لكن المشكلة هي أن الأميركيين أمة ساذجة للغاية؛ فهؤلاء المنتصرون يعتقدون أن حقهم لا يقتصر على الهيمنة بل ويملي عليهم أن يعلمونا، والآن بعد عشر سنوات تبين أنهم لم يعلمونا ما نريده تماماً، أي لم يعلمونا كيف نصبح بمستواهم، بل أرادوا تربيتنا على احترام المنتصرين".
وفي المحور الثاني حول "روسيا واليهود"، نقرأ اقتباسات مطولة عن المؤرخ فاسيلي شولغين وهو يتقصى الجذور التاريخية لمعاداة اليهود في روسيا، موضحاً أنه في السابق تميزت المدن الروسية بوجود مراكز تجارية يهودية في وسطها محاطة بالسكان الروس الذين قذف بهم إلى الأطراف ليمارسوا الزراعة هناك، وقد أبعدهم اليهود في القرن السادس عشر عندما اشترك البولنديون والليتوانيون في احتلال روسيا الصغرى (أوكرانيا وبيلاروسيا)، فكان ذلك سبباً كافياً لتجذر العداء الروسي ضد اليهود. ثم ازداد العداء للسامية بعد ثورة 1917 بسبب الدور الذي لعبه اليهود في قيادتها، مما أفضى إلى صراع على السلطة بين جماعتين هما: اليهود بزعامة تروتسكي، والجورجيون بقيادة ستالين. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية تم إطلاق حملة ضد "الكوسموبوليتية عديمة الجذور"، وكانت كما يقول فلاديمير ألباطف موجهة ضد اليهود بوصفهم دون جذور قومية أصيلة في الاتحاد السوفييتي. لكن بعد وفاة ستالين عام 1953 وصعود خروتشوف، جاء معظم المستشارين المحيطين به، ومن بعده ببريجنيف، ثم أوندروبوف، من الوسط اليهودي. وكما يقول الأديب الروسي إيفان شيفستون: "انتعشت العناصر الصهيونية وتغلغلت في جميع مؤسسات السلطة بدءاً من المكتب السياسي للحزب الشيوعي وحتى كبريات الصحف".
وكشف انهيار الاتحاد السوفييتي بؤر الصراع الثقافي الروسي اليهودي، مما حدا بفلاديمير بوندارينكو إلى التحذير من مواجهة مموهة بينهما، وقد أشار إلى أنه كانت هناك محاولة لتنظيم حوار روسي يهودي لكن قصف البرلمان خريف عام 1993 عطل ذلك المشروع، كما أدرك اليهود أنهم ثبتوا أقدامهم تماماً في السلطة السياسية، إضافة إلى دورهم الذي أصبح مفرط القوة في وسائل الإعلام، وفي الثقافة بما فيها السينما والمسرح.
وفيما يتعلق بـ"روسيا والإسلام السياسي"، يناقش هذا المحور عدداً من الآراء والدراسات، أهمها ما كتبه الخبير والمستعرب الروسي ألكسندر إغناتينكو الذي يرى أنه رغم وجود 20 مليون مسلم في روسيا، إلا أن هناك سيناريو تتحول بموجبه الأرثوذكسية إلى دين للدولة على حساب المسلمين الذين يتعزز شعورهم بالغربة نتيجة تصوير الحرب الشيشانية باعتبارها دفاعاً عن الأرثوذوكسية ضد الإسلام، كما تتابع وسائل الإعلام الروسية دق طبول "الخطر الإس