يوم الثلاثاء الماضي, أصدر القضاء الأسباني حكمه بإدانة تيسير علوني –مراسل قناة "الجزيرة" اللامع- بتهمة التعاون مع تنظيم "القاعدة", مما ترتبت عنه عقوبة السجن لمدة سبع سنوات, بسبب تعاونه مع منظمة إرهابية يتزعمها أسامة بن لادن. وفي هذه المحاكمة محطة رئيسية مهمة, يتعين علينا نحن الصحفيين جميعاً, الوقوف عندها وتأملها, بصرف النظر عما إذا كنا نحب قناة "الجزيرة" أو لا نحبها, وبصرف النظر عن كراهيتنا أو حبنا للولايات المتحدة الأميركية. فلهذه الوقفة علاقة بحتة بالصحافة من حيث هي, عربية كانت أم أميركية أم دولية. وإنها لمن واجبات الصحفيين, لكونها تنبع من صميم عملهم ومهنتهم. وفوق كل شيء, فإن في هذه الوقفة ما يتصل مباشرة بأخلاقيات مهنتنا كصحفيين, لا مناص منها: أين تنتهي الخطوط المسموح بها في مهنتنا؟ وأين تبدأ الخطوط الحمراء؟
وفي محاكمة تيسير علوني, توصل القضاء الأسباني إثر عامين من التحقيقات, إلى أنه تخطى الخطوط الحمراء. صحيح أن علوني مواطن عربي متدين... ولكن ماذا يعني كل هذا؟ وهل تكفي هذه الصفات وحدها, للحكم عليه بالإدانة؟ وكما قلت سابقاً في صدر هذا المقال, فإن قراراً كهذا, يهمنا جميعاً نحن الصحفيين, عرباً كنا ومسلمين, أم أميركيين, أم من نيكاراجوا. ولهذا السبب فإننا لا نتحدث عن العروبة ولا عن الإسلام, ولا عن تنظيم "القاعدة", ولا الأصولية, إنما نتحدث عن المهنة بحد ذاتها. وبذلك إنما نسلط الضوء على أخلاقيات المهنة الصحفية وقواعدها وواجباتها إزاء القراء, بما يعني اتساق هذه المهنة وتكامل أصولها وأخلاقياتها. وبالنظر إلى قضية تيسير علوني, فإننا نقتطف فيما يلي جزءاً من النص الكامل لقرار المحكمة الأسبانية, بصياغته المترجمة والمنشورة في عدة صحف صدرت باللغة العربية, يوم الثلاثاء الماضي: لقد حكم على مراسل قناة "الجزيرة" الفضائية القطرية تيسير علوني الملقب بـ"أبومصعب", الذي أجرى أول مقابلة مع أسامة بن لادن في أفغانستان, بالسجن 7 سنوات بتهمة التعاون مع تنظيم "القاعدة". كما اتهم أيضاً بإقامة علاقة ببعض عناصر تنظيم "القاعدة" وإيصال مبالغ مالية إلى بعض قياديي التنظيم.
وسواء شئنا أم أبينا, فقد كان تيسير علوني بين الصحفيين الذين حققوا كثيراً من السبق الصحفي. وإذا ما تحدثت عن رأيي الشخصي فيه, فربما كنت من المعجبين به, أو حتى من الذين يشعرون بالغيرة منه. ولكن ما علاقة الآراء الشخصية أصلاً بالموقف المبدئي من محاكمته وإدانته كصحفي؟ فالشيء الوحيد الذي يجب أن نقيم له وزناً, هو ما إذا كان تيسير مهنياً ومجيداً لعمله الصحفي أم لا؟ وفي هذا فقد سبق لي القول إنه حقق سبقاً صحفياً في مرات عديدة, مما يعني نجاحه ومهنيته. وربما كنت أنا أو غيري, ممن لا تروقهم الميول "الإسلاموية الجهادية" لتيسير علوني. بل ربما كانت للكثيرين منا, آراؤهم الشخصية الأخرى في تيسير. بيد أن الذي يجب تأكيده, هو أنه لا يحق لأي كان, أن يحكم على مهنيته, استناداً على تلك الآراء والمواقف الشخصية. ومما يحسب إيجاباً لتيسير, ذلك السبق الصحفي الذي حققه, بما فيه انفراده بإجراء الحوار التلفزيوني الوحيد مع أسامة بن لادن, زعيم تنظيم "القاعدة", إلى جانب بقائه في أفغانستان, إثر طرد جميع الصحفيين من هناك, إبان الاجتياح الأميركي لأفغانستان. فهل في كل هذا ما يحيله إلى متهم أمام القانون والعدالة؟ على النقيض تماماً, أرى أن ذلك, يجعل منه صحفياً ومهنياً جيداً.
ومن باب المقارنة بين ما حدث لتيسير علوني بسبب بقائه في أفغانستان, أذكر أن صحيفة "نيويورك تايمز" كانت قد بعثتني مراسلاً لها, في أوج عنفوان الثورة الإيرانية, بسبب قدرتي على التحدث باللغة العربية, خلافاً لزملائي الأميركيين العاملين في الصحيفة. ولما كانت العربية هي الوسيط المشترك بيني والقادة الدينيين للثورة الإيرانية, فقد حظيت بحبهم وثقتهم, الأمر الذي جلب لي غضب وغيرة زملائي الأميركيين, بسبب التغطيات الصحفية الناجحة التي حققتها في طهران. لكن وعلى رغم ذلك النجاح, فقد كانت أول مقالة لي أنتقد فيها زعماء الثورة الإيرانية, سبباً في اعتقالي وطردي من طهران عام 1981. فهل في كل ما حكيت عن تجربتي الشخصية هذه, دليل على سلبيتي المهنية؟ وهل يعني ما حدث أنني بدأت أعمل جاسوساً لصالح قادة الثورة الدينيين في عام 1978 – يوم كنت متعاطفاً مع الثورة- ثم تحولت إلى عدو, لحظة انتقادي لحكمهم الدموي في عام 1981؟ كلا بالطبع. ففي كلتا الحالتين – لحظة الترحيب بي في طهران وطردي منها- إنما كنت أقوم بعملي وواجبي إزاء قراء صحيفة "نيويورك تايمز" الذين حرصت على إطلاعهم على آخر مستجدات ما يجري في الساحة السياسية الإيرانية. وهذا يعني أنني كنت أؤدي واجبي الصحفي, بعيداً عن خدمة أي صديق أو عدو للثورة الإيرانية. وما مهنة الصحفي هذه, سوى الجهر بالحقيقة... والحقيقة وحدها, دون أدنى خوف من النتائج التي قد تترتب عنها.
وإذا كانت أخلاقيات المهنة نفسها, تمنع الصحفيين من قبول أية أموال مشتبه بها, وكذلك ا