الاغتيال جريمة يحرِّمها القانون والعرف الاجتماعي، كما يحرِّمها قانون المحافظة على النوع، حتى لا يتحول المجتمع البشري إلى غابة يأكل كبيرها صغيرها.. ويعبث قويُّها بضعيفها.
وترتبط عملية الاغتيال -بغير الحق- بالجبن والخوف من المجاهرة، ومقابلة الخصم بذات الحُجج وذات السلاح.
وفي عالمنا العربي المسكون بالخوف والجبن والطعن في الظهر، يتغذى الاغتيال على عقول النفوس الضعيفة ويتمكن منها، ما يجعلها مشروعاً قابلاً للتنفيذ مع أول إعلان خلاف في الرأي، وهكذا نجد أن الاغتيال ليس ضرورياً أن يرتبط بالعنف المقابل للعنف.. بل نجده أحياناً يربط الحمامة إلى وتد الأسد!
وبالأمس فجع المجتمع الإعلامي بالتفجير الجبان الذي طال الصحافية اللبنانية مي شدياق، وهي تؤدي دورها في خدمة الكلمة والكشف عن الحقيقة. ومهما قيل أو تم "التوجس" أنها مرتبطة بحادث التفجير الجبان أيضاً، الذي ذهب برجل من أنبل رجالات لبنان، وهو الرئيس رفيق الحريري، فإن محاولة اغتيالها عملية جبانة وغير حضارية. وإذا كان الإنسان سوف يؤخذ بتوجهه السياسي أو العقائدي ويحق لمن يخالفه ذلك التوجه أو المعتقد أن يقتله، فإننا كـ"عرب" نقدم "نموذجاً" جد حضاري لخير أمة أخرجت للناس، وللصفات التي علمونا إياها في الابتدائية، حيث الكرم الحاتمي، ونصرة المظلوم، وأعظم الجهاد أمام سلطان جائر.. وغيرها من التراثيات التي حُفرت في عقولنا، ثم جاءت الأنظمة كي تمارس "فضائل" ضدها، قد يكون من باب التغيير لا التمسك بالأصالة!
ومحاولة قتل الصحفية "شدياق" في لبنان يأتي بعد حادثتين مماثلتين راح ضحية لهما الصحافي سمير قصير، وجورج حاوي الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، حيث استُخدم نفس الأسلوب الجبان وهو السيارة! والقائمة طويلة للضحايا الذين سقطوا دون ذنب تحت وطأة جبن الاغتيالات. من كامل مروة عام 1966، مروراً بسليم اللوزي عام 1980، وسمير عاصم سلام وغيرهم.
وإذا كنا نستنكر الحادث الإجرامي الذي تعرضت له الصحافية "شدياق" ونرفضه كعمل جبان وغير حضاري، فإننا نستحضر هنا كل أعمال القمع الرسمية التي تُمارس ضد الصحافيين، وكل حالات الإقصاء التي تقتل الصحافي قبل أوانه.. وتعتقل عقله وقلمه، وذلك بالتهديد بقطع رزقه أو نفيه خارج بلاده. وهذا شكل من أشكال الاغتيالات غير الدموية، بل النفسية، وتكون غالباً أشد من تلك الدموية، حيث يمكن أن يلقى المغدور ربّه وتنتهي المشكلة! لكن إشكالية المغدور نفسياً.. والمُحارب في قطع خبز عياله تبقى توغل في ذاته، خصوصاً عندما يرى المنكر دون أن يغيره (ولو بقلبه)! وهو أضعف الإيمان.
لقد اشتكى أحد الكتاب على منبر "وجهات نظر" قبل أسابيع، من ندرة الإعلاميين الخليجيين في المؤسسات الإعلامية، رغم الوفر الوفير في المؤهلين خليجياً في مجال الإعلام، ورغم خبرتهم التي تفوق خبرة الوافدين. هذه الظاهرة وراءها عنف نفسي، وهو الإقصاء، ورفض الآخر، الذي يأتي من نفوس ضعيفة، لا هي قادرة على قراءة الخطاب الإعلامي الجديد، ولا تريد للمواطن أن يقوم بتلاوة وممارسة ذلك الخطاب، حيث يتفوق عليها، لذلك يلجأ البعض إلى إقصاء المؤهلين، بل والمبدعين في مجال الإعلام، وتضليل "صاحب" القرار الأول أو الثاني عن حقيقة ثقافة واطلاع ووعي هؤلاء الإعلاميين، وتُحيط نفسها ببعض "الصبية" من إعلامييّ الصدفة أو "الكرامات"، فتجعل منهم قادة للرأي العام، ويقومون بإدارة المؤسسات الإعلامية، وكل مؤهلاتهم "نعم طال عمرك".
إن هذا المؤهل قد لا يتواجد لدى كثيرين من الذين خبروا الإعلام أكثر من ثلاثين عاماً، ومن الذين قرأوا كثيراً -عربياً وإنجليزياً- عن الإعلام، وحاضروا كثيراً وخالطوا كثيراً، ولديهم أفكار ثرية تتفوق على "تجارب" بعض الإعلاميين الوافدين، لكن مشكلتهم أنهم لم يتخرجوا بشهادة "نعم طال عمرك".
لذلك لا نختلف مع زميل كويتي قال ذات يوم "إن الصحافة الخليجية مخطوفة"، ولا نختلف مع الزميل الخليجي الذي طالب بحق "خلجنة" أو توطين الإعلام الخليجي. لكننا -بكل أسف- نقُر بأن الإعلام الخليجي مُحتل! أجل مُحتل دون "بريمر" أو جورج بوش الابن! ولنا وطيد الأمل بأن يتدارس وزراء الإعلام الخليجيون هذا الموضوع عند اجتماعهم خلال شهور قليلة.
نحن في الخليج -حتى اليوم- لم يصلنا "النموذج" اللبناني في التعامل مع الصحافيين، رغم ما تعرض له الزميل "أحمد الجار الله" قبل سنوات! ولا نريد أن يصلنا أي نموذج يصادر أي صوت للحق، وأية صورة للصدق!
لكننا مطالبون -كأصحاب رسالة- بأن نجاهر بالصوت العالي من أجل رفع الظلم عن أي صحافي، وحماية الصحافيين من الجور الإداري، والإقصاء السياسي، والذي يأتي -دون حق- لإرضاء نفوس ضعيفة كان قدرها وقدرتها عدم تحمل مسؤولية الكلمة أو المواجهة مع أصحابها، لذلك تلجأ هذه النفوس إلى الإقصاء غير الإنساني -بكل برودة دم- ذلك أن الإقصاء جريمة لا يُعاقب عليها القانون، فما بالكم لو كان المقصيّ هو الحاضن.. وكما يقول المثل الشعبي "آخ من ظهري.. وآخ من بطني"!
ونحن نتعج