إن مجرد القيام بزيارة قصيرة لمدينة "أم قصر"، وهي الميناء العراقي الوحيد في الجنوب، يجعلني مقتنعاً بأننا سندخل المرحلة النهائية للعملية السياسية في العراق هنا. فالاقتراع العراقي الذي سيتم في شهر أكتوبر القادم على الدستور الجديد، وفيما بعد في شهر ديسمبر على البرلمان الجديد، هو الذي سيوضح لأميركا ما إذا ما كان الأمر يستوجب منها البقاء هنا لفترة أطول من الوقت أم لا.
وعلى الرغم من كل الأخطاء المخجلة التي ارتكبها وزير الدفاع الأميركي "دونالد رامسفيلد"، فإن العراق - في نهاية المطاف- كان مقدراً له دائماً أن يتبلور على النحو الذي يريده العراقيون. وأغلبية الشعب العراقي من الشيعة والأكراد، الذين يشكلون معاً ما يقارب 80 في المئة من إجمالي السكان، رفعوا أصواتهم مطالبين بحقوقهم. فهم يريدون عراقاً لا مركزياً، يسمح لكل طائفة بأن تدير شؤونها الداخلية وثقافتها دون خوف من أن تتم السيطرة عليها، والتنكيل بها في أي وقت في المستقبل، على أيدي نظام في بغداد يمثل الأقلية السُنية المدعومة بأموال النفط.
والشيء الذي لا يقل عن ذلك أهمية، أن كلاً من الأكراد والشيعة قد أوضحوا بشكل جلي أنه ليست لهم مصلحة في إخبار السُنة كيف يعيشون، وأنهم سيقومون باقتطاع شريحة للسُنة من عائدات النفط العراقي، وسيحافظون على الهوية العربية الأساسية للعراق. إذن يمكن القول إننا قد أصبحنا نعرف الآن ما هو نوع الأغلبية التي يريدها كل من الشيعة والأكراد؟ وأصبح السؤال المطروح الآن هو: ما هو نوع الأقلية التي يريد السُنة أن يكونوها؟ هل يريدون أن يكونوا مثل الفلسطينيين، وأن يقضوا المئة عام القادمة وهم يحاولون حشد العالم العربي- الإسلامي، كي يعكس لهم مسار عجلة التاريخ، ويعيد لهم "حقهم" في حكم العراق؟
أم أنهم يريدون أن يتبنوا المستقبل؟ أنا أعرف أن السُنة مرعوبون من النفوذ الإيراني في هذه المنطقة الجنوبية، لكن، وكما سيقول لك البريطانيون الذين يديرون منطقة البصرة التي تضم مدينة وميناء أم قصر، فإن أخشى ما يخشاه الشيعة العرب، هنا هو أن تهيمن عليهم إيران. وموقفهم هذا سوف يتعزز إذا ما قام السُنة العراقيون – بدلا من السماح أو التحريض على قتل الشيعة– بتبني الدستور الجديد، مما يتيح الفرصة للأميركيين للقيام بمنحهم شريحة أكثر عدلاً من الكعكة.
"نحن لدينا العديد من المصالح المتداخلة مع مصالح السُنة العراقيين" كان هذا ما قاله لي مسؤول أميركي كبير في بغداد. والحقيقة أن ما حدث في المراحل النهائية من المفاوضات الدستورية في العراق هو أن السفير الأميركي الموهوب في العراق السيد "زلماي خليلزاد" عمل في الأساس كمحامٍ عن السُنة العراقيين في تعاملهم مع الأكراد والشيعة. ولكن المشكلة كانت هي أن السُنة لم يعرفوا أبداً متى يقولون: "نعم... هذا يكفينا".
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل يدرك السُنة مصالحهم؟ حتى الآن رأينا العالم العربي السُني يلتزم الصمت في الوقت الذي انخرط فيه البعثيون والجهاديون السُنة فيما يمكن أن يطلق عليه عملية "تطهير عرقي" قاموا خلالها بقتل المدنيين الشيعة بأعداد كبيرة لمجرد أنهم شيعة، على أمل استعادة نظام يسوده السُنة- وهو نظام غير قابل للاستعادة. لقد صدرت مؤخراً فتوى تُدين لاعبة تنس هندية شابة مسلمة لأنها ارتدت تنورة قصيرة، في حين لم تصدر فتوى واحدة من رجال الدين السُنة تدين الزرقاوي لقيامه بذبح الأطفال والمدرسين الشيعة. غير أن بعض السنة الشجعان بدأوا يعبرون عن آرائهم صراحة.
فقد كتب عبدالرحمن الراشد في صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية اليومية يقول: "إن واحدة من أغرب الظواهر في الآونة الأخيرة تمثلت في رفض الحكومات العربية القيام بإدانة الأعمال الإرهابية التي تحدث في العراق أو الاتصال بالضحايا"، وأردف الراشد قائلا:"خذوا مثلاً أحدث الفظائع التي وقعت في العراق والتي فقد فيها 200 عراقي حياتهم خلال يومين من المذابح، حيث لم تقم حكومة عربية واحدة برفع صوتها بالإدانة، في حين أن صوت معظم تلك الحكومات ارتفع معترضاً عندما لم يتضمن الدستور العراقي فقرة تنص على أن العراق جزء من الأمة العربية". إذن، يمكننا، يا قوم، أن نقول إننا نتعثر في العراق ليس بسبب عدم كفاءة فريق بوش، ولكن أيضاً بسبب الخواء الأخلاقي في العالم العربي السُني الذي ينخرط أسوأ من فيه في عمليات تطهير عرقي وحشية، محاولين خنق أي أمل في الديمقراطية هناك، في حين أن الباقي خائف أكثر مما ينبغي، أو مناوئ للشيعة أكثر مما ينبغي إلى درجة لا تسمح له بعمل أي شيء حيال ما يدور في هذا البلد. ربما كان النقاد الأوروبيون المتهكمون على حق، وربما أن كل ما هنالك هو أن هذه المنطقة كما يقولون غير قابلة للتغيير فعلاً.
إن هذا كله سوف يتضح لنا خلال الشهور القليلة القادمة عندما نرى أي نوع من الأقلية يريد السُنة أن يكونوه بالضبط. فإذا ما عادوا إلى رشدهم فسوف يظل احتمال تحقيق محصلة مشرفة في العراق قائماً. أما إذا لم يفعلوا ذلك فإننا سنكون كمن