افتقاد حركة "حماس" الرؤية السياسية يضعها في مواقف حرجة من وقت إلى آخر، ولكنه يكبد قضية فلسطين خسائر طول الوقت، حتى عندما تحين فرصة لتحقيق مكسب ما. فبالرغم من أن الانسحاب من قطاع غزة يحقق مصلحة إسرائيلية أمنية واستراتيجية، كان في إمكان الفلسطينيين أن يجنوا منه مكسباً إذا توافقوا على أن يجعلوا هذا القطاع نموذجاً ناجحاً يمثل "بروفة" لدولتهم التي قدموا تضحيات هائلة من أجلها.
ولكن أنّى لمن تعوزهم الرؤية السياسية أن يروا الطريق الذي يتعين عليهم أن يسلكوه؟ فهذه الرؤية هي بمثابة "بوصلة" ترشد إلى هذا الطريق الذي فقدته "حماس" مرة أخرى عندما أصرت على استفزاز رئيس الوزراء الإسرائيلي المأزوم داخلياً أرييل شارون، عبر خطاب يؤكد أنها هزمته فهرب منسحباً، ومن خلال سلوك يوحي بأنها تستطيع السيطرة على قطاع غزة.
فأما الخطاب فهو ليس صحيحاً، وأما السلوك فهو ليس رشيداً. ولنبدأ بخطاب "حماس" الذي تنسب فيه إلى نفسها ما ليس لها، وشتان بين قرار إيهود باراك الاضطراري للانسحاب من جنوب لبنان في عام 2000 لتفادي مزيد من الخسائر، وقرار شارون الاختياري للانسحاب من قطاع غزة الذي كان عبئاً على إسرائيل منذ احتلالها له، أي قبل أن تولد "حماس" أصلاً. وهذا عبء يعود إلى طابع القطاع نفسه وظروفه، وليس إلى هزيمة ألحقتها "حماس" بإسرائيل. فإذا كان في إمكان "حزب الله" أن يباهي بأنه أرغم إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان، فلا تستطيع "حماس" أن تنسب إلى نفسها إنهاء الاحتلال في قطاع غزة. لقد حولت مسار انتفاضة الأقصى فعسكرتها ودفعت باتجاه اعتماد نمط رئيس للعمل المسلح، وهو العمليات الانتحارية أو الاستشهادية، في محاولة لاستنساخ تجربة "حزب الله" في جنوب لبنان. وكان هذا أحد أهم عوامل تراجع هذه الانتفاضة ونجاح إسرائيل في استعادة زمام المبادرة الميدانية والسياسية. وربما كان ممكناً أن يحدث الانسحاب من قطاع غزة هرباً من المقاومة بالفعل، لو كانت "حماس" قد أدركت أن انتفاضة مدنية، وليست مسلحة، هي التي تقض مضاجع الاحتلال ليس فقط في غزة ولكن أيضاً في الضفة الغربية.
غير أن مثل هذا الإدراك كان يقتضي رؤية سياسية غائبة، وبسبب غيابها، لم يعرف قادة "حماس" أن الكلام ليس مجانياً في أي وقت أو تحت أي ظرف. لقد تعود كثير من العرب أن يحققوا بالكلام ما لا يستطيعون إنجازه في الواقع. وهذا هو مؤدى خطاب "حماس" عن الهزيمة التي ألحقتها بإسرائيل وفرضت عليها أن تفر من غزة. ولكن هذا الخطاب جاء في وقت لا يستطيع شارون تحمله لأن خصومه يستخدمونه لإشعال نار الغضب ضده في داخل حزب "ليكود" سعياً إلى إقصائه من رئاسة هذا الحزب.
فالوقود الذي يوفر الطاقة لهذه الحملة هو أن شارون ترك قطاع غزة لحركة "حماس" لتجعله منطلقاً لحربها ضد إسرائيل وقاعدة لممارسة "الإرهاب" بحرية أكثر من ذي قبل. وجاء سلوك "حماس" الاستعراضي بعد الانسحاب ليعطي الحملة ضد شارون في حزبه، وفي أوساط اليمين عموماً، المزيد من الوقود.
فالاستعراض العسكري أعطى الاتهامات الموجهة ضد شارون زخماً أكبر، لأنه أتاح لأصحابها فرصة لأن يشيروا بأصابعهم إلى ما يدل عليها في الواقع وليس فقط في الكلام. وبالرغم من أن الأسلحة التي عرضتها "حماس" هي كلها بدائية لا تخيف أحداً، فقد دعمت الإيحاءات التي قامت عليها حملة خصوم شارون ضده، خصوصاً أن الحشود الجماهيرية الكبيرة أتاحت لهم فرصة لتدعيم مزاعمهم عن سيطرة "حماس" على قطاع غزة.
وهكذا جعل قادة "حماس" حركتهم أداة في صراع إسرائيلي داخلي وصل إلى مرحلة "كسر العظم"، على نحو لا يمكن أن يحصدوا من ورائه إلا خسائر صافية. وهم، في ذلك، افتقدوا الحس السياسي البسيط، وليس فقط الرؤية السياسية. لم يكن الأمر في حاجة إلى حس سياسي مرهف لتوقع رد فعل شارون على خطاب وسلوك يصبان في حملة خصومه عليه في لحظة حاسمة بالنسبة إلى الصراع في داخل "ليكود" عشية اجتماع هيئته المركزية يومي الأحد والاثنين الماضيين، وفي وقت يتمتع فيه بثناء دولي لم يحصل على مثله من قبل بسبب قراره الانسحاب من قطاع غزة، ونجاحه في إنجاز هذا الانسحاب بالرغم من الحملة ضده في حزبه. وها هي اللجنة الرباعية الدولية المعنية بأزمة الشرق الأوسط توجه إليه، في بيانها الذي صدر عن اجتماعها في الأسبوع الماضي (تحية تقدير للشجاعة السياسية التي يتحلى بها) وتثني على أداء حكومته والقوات المسلحة والشرطة. وفي ظل هذا التقدير، كان في إمكانه أن يستغل أي ذريعة لاستئناف أعمال القصف والاغتيال والملاحقة والاعتقال بأقوى من ذي قبل. فهو في أمس الحاجة إلى إظهار شدة بأسه ضد الأعداء رداً على الحملة المشتعلة ضده التي يتهمه أصحابها بأنه فرّط في أمن إسرائيل، وهو في حاجة أيضاً إلى تجميد القضايا العالقة بعد الانسحاب من قطاع غزة، وفي مقدمتها المعابر والممرات، إلى ما بعد حسم الصراع في داخل "ليكود" لأن المرونة إزاءها تضعف موقفه في هذا الصراع، فيما التشدد تجاهها يسحب من الرصيد الدولي الذي كونه لنفسه.
خذ مثلاً قضية معبر