على غير العادة ارتفعت أسعار النفط بصورة كبيرة في بداية الربع الثالث من العام، وذلك لأسباب عديدة، البعض منها موضوعي يتعلق بحالة الأسواق والكوارث الطبيعية، كإعصاري كاترينا وريتا، أما البعض الآخر، فإنه نفسي ناجم عن حالة الهلع التي يمارسها المضاربون لتحقيق أرباح خيالية.
بغض النظر عن الأسباب، هناك عواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية مهمة قد تتمخض عن استمرار ارتفاع أسعار النفط والمنتجات النفطية في الأسواق العالمية، وهو الأمر المتوقع في فصل الشتاء القادم عندما يشتد الطلب على مصادر التدفئة، وبالأخص النفط.
هذا الأمر لا يتوقف على أسعار سلعة عادية، وإنما على سعر سلعة استراتيجية تقود معها ارتفاعا وانخفاضا كافة أسعار السلع والخدمات دون استثناء، ابتداء من أفران المخابز، وليس انتهاء بأسعار تذاكر الطيران.
من ذلك نجد حدة الاحتجاجات التي حدثت في اليمن بعد ارتفاع أسعار المحروقات، إذ تعتبر اليمن نموذجا للبلدان النامية الفقيرة التي يمكن أن تتضرر من جراء ارتفاع أسعار النفط ووصولها إلى معدلات خيالية، مقارنة بأسعارها قبل خمسة أعوام، علما بأن اليمن تصنف ضمن البلدان المنتجة للنفط، أما أوضاع البلدان الفقيرة الأخرى المستوردة والتي لا يتعدى دخل الفرد السنوي فيها 200 دولار للفرد، فإنها ربما تقلص وارداتها من النفط إلى الحد الأدنى، مما ستكون له انعكاسات سلبية على مجمل أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
في الواقع لا توجد مبررات موضوعية قوية لهذا الارتفاع في سعر برميل النفط، والذي سيؤدي عاجلا أم آجلا إلى فرض تغيرات هيكلية في أسواق الطاقة العالمية من جهة وفي نمط استهلاك النفط من جهة أخرى، فمعدل الاستهلاك السنوي للفرد في الولايات المتحدة يعادل مرتين ونصف معدل استهلاك الفرد في أوروبا الغربية، مما حدا بالأوروبيين، وبالأخص ألمانيا وفرنسا إلى إلقاء اللوم على الولايات المتحدة في التسبب في إعصاري كاترينا وريتا بسبب التأثير البالغ لمستوى الاستهلاك الأميركي من النفط في انبعاث الغازات المؤثرة في طبقات الجو وعدم انضمام الولايات المتحدة لاتفاقية كيوتو للحد من انبعاث هذه الغازات.
يبدو أن الأمور ستزداد سوءا، فلأول مرة منذ عقود تلجأ البلدان الصناعية المستوردة إلى السحب من الاحتياطي الاستراتيجي من النفط لديها والمعد لحالات الطوارئ كما حدث أثناء حرب عام 1973 بين العرب وإسرائيل.
إن ذلك يعني ببساطة إمكانية ارتفاع الطلب على النفط في الشهور القليلة القادمة، وذلك بسبب قدوم فصل الشتاء أولا وبسبب التوجه لإعادة تعبئة مخزون الاحتياطي الاستراتيجي من جهة أخرى، فالبلدان الصناعية المتطورة لا يمكنها ترك الأمور للصدف، فهناك احتياطيات استراتيجية في مجال المواد الغذائية والأدوية والطاقة... إلخ.
وإذا ما حدث ذلك، فإن أوضاع البلدان النامية المستوردة للنفط ستزداد تعقيدا، ففي تايلندا على سبيل المثال لوحظ ارتفاع كبير في مبيعات الأغذية الرخيصة، كما انتشر بصورة أكبر استخدام وسائل النقل الحركية، كالدراجات الهوائية.
المشكلة أن قدرة هذه البلدان على المناورة والتأقلم محدودة للغاية، ما يعني تعرضها لأزمات خطيرة، ربما تتمخض عنها تغيرات دراماتيكية في العديد من البلدان الآسيوية والأفريقية.
أما فيما يتعلق بالبلدان المصدرة، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، فإن التطورات المتلاحقة في الأسواق توفر لها فرصة ذهبية لاستكمال مرافق البنى التحتية وتنمية مصادر الدخل البديلة استعداداً لمرحلة ما بعد النفط، فالعائدات الضخمة في منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات استغلت لإقامة البنى التحتية وإقامة بعض الصناعات البتروكيماوية.
الوضع الحالي وبعد ثلاثة عقود يختلف تماما، فالتغيرات التي طالت هيكلية الاقتصاد العالمي، وبالأخص ثورة تقنية المعلومات والاتصالات وضعتها في مقدمة القطاعات الاقتصادية، كما اكتسبت أنشطة الخدمات المصرفية والسياحية أهمية إضافية مدعومة بالخبرات البشرية المؤهلة تأهيلا عاليا، مما يتطلب إعادة ترتيب الأولويات في البلدان المصدرة للنفط وتسخير الفوائض النقدية لخدمة توجهاتها التنموية الجديدة والتي ربما تختلف عن تلك التوجهات والسياسات الاقتصادية التي اتبعت في العقود الثلاثة الماضية.