صورة الفلسطيني في الإعلام العالمي ليست مطمئنة, ولا تتناسب مع عدالة وأحقية قضيته ونصاعتها. هي صورة أسير الموت والعازف عن الحياة! صحيح أن هناك تقدماً ملموساً في إدراك الرأي العام العالمي للقضية الفلسطينية, لكن ما زالت هناك أشواط طويلة يجب قطعها واستثمار ما تتيحه من فرص لكسب أنصار جدد. فالتقدم المشار إليه يمكن وصفه بأنه تأييد عاطفي لكنه غير متماسك وغير مؤثر, وهو, غربياً, محصور في أوروبا بينما لا زال الأمر في الولايات المتحدة بالغ السوء. في أوروبا لم يتحول التأييد للفلسطينيين بعد إلى قوة مؤثرة تحرك الرأي العام للضغط على الأحزاب والمؤسسة الحاكمة كي تتخذ مواقف مؤيدة للقضية الفلسطينية. وما زالت القضية بعيدة عن أن تصل إلى الأجندات الانتخابية للأحزاب المتنافسة في معظم البلدان الأوروبية. والهدف الاستراتيجي متوسط وبعيد المدى يجب أن يكون دفع الرأي العام الأوروبي والغربي إلى أن يتحرك خطوات فعالة إلى الأمام, عبر خطاب إعلامي وسياسي ناجح, بحيث يدفع قضية فلسطين إلى قلب النقاش السياسي المحلي (كما كانت قد صارت قضية النظام العنصري في جنوب أفريقيا في مرحلة ما قبل مانديلا), ويشكل نقطة جذب انتخابية للأحزاب المتنافسة.
معنى ذلك أن ثمة حاجة ماسة لتطوير إعلام وخطاب فلسطيني قادر على مواجهة إعلام إسرائيلي محكم الصناعة, وخطاب بالغ الذكاء يحسن انتهاز الفرص وتصوير أي خطوة أو قرار تتخذهما إسرائيل بطريقة مؤثرة وناجحة في الرأي العام العالمي (مثل النجاح في تصوير الانسحاب من غزة وكأنه تنازل تاريخي من إسرائيل بينما هو انسحاب متأخر من أراض محتلة نتجت عنه معاناة هائلة للفلسطينيين, وهو انسحاب غير مكتمل بسبب سيطرة إسرائيل على الحدود, إلخ, وما رافق ذلك كله من مبالغات في تصوير "آلام المستوطنين وبكائهم", و"تصميم" حكومة شارون على ترحيلهم, إلى غير ذلك).
من الضروري أولاً الإقرار بأن سنوات الانتفاضة الثانية والاشتغال الإسرائيلي الذي لم يهدأ على تخليق وتسويق تشويهات مرافقة للفلسطيني وممثلة له رسمت صورة لا يمكن القول إنها إيجابية في كل جوانبها. فإلى جانب صورته كمقاوم لا يخضع للاحتلال ويقاتل أشرس جيش في المنطقة, كانت هناك صورة دائمة التكرار للفلسطيني الملثم بالسواد, والمحتشد في مسيرات فيها كل أنواع الأعلام إلا علم فلسطين, ويطلق الرصاص في الهواء بمناسبة أو من دونها. وكانت هناك أيضاً شقيقتها صورة الانتحاري/ الاستشهادي المزنر بالأحزمة الناسفة والذي يتقصد هدفاً غالباً من يكون مدنياً. وهذا الانتحاري/ الاستشهادي الذي يُصور بكونه لا يريد سوى الموت يبدو عدمياً لا إنسانياً. يتبدى قصور الخطاب الإعلامي الفلسطيني في أوقات الأزمات. فبخلاف الحال في الأوقات العادية حيث يتوفر الوقت والتخطيط لصوغ خطاب إعلامي يعالج ظرفاً معينا, فإن الاختبار الحقيقي لأي خطاب إعلامي ومؤسسة إعلامية يكون خلال وقت الأزمة. ورغم أن الإعلام الفلسطيني يعاني من اختلالات بارزة حتى في الأوقات العادية, فإن من المفيد التنبيه إلى أن إخفاقات هذا الخطاب وكذا المؤسسة الإعلامية الفلسطينية الرسمية والفصائلية تطفو على السطح خلال فترات الأزمات الوطنية والتغيرات المفصلية.
في وقت الأزمات تكون الحاجة ماسة إلى سرعة فائقة في التقاط العناصر السياسية والإعلامية الأهم التي يجب على الخطاب الإعلامي تبنيها ونشرها وتوزيعها بأقصى سرعة ممكنة. ففي ظرف الأزمة ينشأ سباق فوري بين الأطراف المعنية بهدف تسويق "السردية الإعلامية" التي تجذب الإعلام العالمي وتحول مساره بشكل مجمل ليتبناها كي تصبح هذه السردية هي السائدة والمعتمدة. وفي حال نجحت رواية الخصم في اختراق الإعلام العالمي وتبوؤ موقع "السردية" الرئيسية والمعتمدة, فإن مواجهة تلك الرواية ومحاولة تعديلها تحتاج إلى جهود ضخمة, وعملياً لا يمكن استدراك التخريب الذي تكون قد أنتجته على صعيد الإدراك العام للحدث والانطباع والموقف الذي ينبني على ذلك.
نذكر هنا على سبيل المثال الآثار الكارثية على المستويات الدولية والفلسطينية والإسرائيلية لغياب وجهة النظر الفلسطينية لتفسير أسباب فشل محادثات كامب ديفيد في صيف عام 2000 الأمر الذي أدى بالرواية الإسرائيلية لأن تكون سيدة الموقف. دولياً تسبب هذا الفشل في انتشار وطغيان فكرة أن الفلسطينيين أفشلوا مساعي السلام, ويتحملون مسؤولية تفويت "فرصة ذهبية" للوصول إلى حل للصراع, مما أدى لتراجع الدور الدولي السياسي وانفضاض قدر من التأييد الدبلوماسي العالمي للفلسطينيين. وبعد ذلك, وعندما اندلعت الانتفاضة بشكل عفوي ما كان بالإمكان صوغ خطاب سياسي وإعلامي مقنع ومرافق لها يصلح ما تم تدميره من خلال تشويه الموقف الفلسطيني وتحميله مسؤولية فشل كامب ديفيد, فكان أن تخبط ذلك الخطاب وتناقض ولم يعد مفهوما على المستوى الدولي. بالتوازي مع فشل كامب ديفيد وتحميل الفلسطينيين مسؤوليته وقيام الانتفاضة استطاع الخطاب الإسرائيلي أن يسوق فكرة مدمرة أخرى مفادها أن الفلسطينيين لن يكتفوا بالضفة