في خضم النهضة والتوسع العمراني الذي تشهده دولتنا، وفي محيط التنمية التي تغير بيئتنا المادية ونسيجنا الاجتماعي القائم وتركيبتنا الديموغرافية، نجد أن الوطن والمواطن، ومن خلال العديد من النماذج والأمثلة المشرقة، يتمسكان بقيم جوهرية تتلخص بخدمة العلم وخدمة الوطن. وبرغم التغير الكبير الذي يطال ملامح هذا الوطن ويغيره جذرياً وبصفة يومية وبوتيرة قلما تتكرر في العديد من أقطار العالم من أقصاه إلى أقصاه، إلا أننا وفي خضم ذلك كله، يزداد إيماننا بأننا مجتمع خير ودولة خيرة وشعب خير. مشاعر تراودنا كلما لمحنا مشهداً يؤكد أنه برغم أننا نتغير إلا أننا لا نتغير، ولا نتغير في العديد من الجوانب التي لا يجب أن نتغير فيها، فحب الوطن مغروس فينا وإن انشغلنا بالرتم السريع لمجتمع ديناميكي متحرك.
أمثلة عديدة تلك التي تجعلني أدرك أن وطني وأبناءه يحملون قيمه قريباً من القلب برغم المغريات والمشاغل التي تُغلب الأنانية على روح الجماعة والعطاء -ولنستعمل كليشيه طالما تم استعماله- نعم، روح الأسرة الواحدة. قصص ونماذج عديدة أراها حولي، وترونها حولكم تؤكد هذه الحقيقة، من التاجر الراحل الذي أعطى لوطنه ولم تلهه التجارة والمال عن الوطن وحبه، فعمل بصمت وبذل وتبنى واستحق التكريم وأعلى الأوسمة من مؤسس دولتنا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، ومهندس شاب، أو لعله تعدى مرحلة الشباب، ابن أسرة تجارية كبيرة فرغ معظم وقته للخدمة العامة وأدار إحدى أكبر المؤسسات العامة رافضاً المعاش والمميزات، لأنه وبكل بساطة يريد أن يعطي للوطن الذي أعطاه وأعطانا الكثير. والأمثلة عديدة، وهي كما تشمل الغني والكبير، فهي تضم الفقير والصغير، فالعديد من الذين يحبون هذا الوطن يحبونه من خلال مواقعهم وعطائهم وحرصهم وعملهم، وها هم أبناء الوطن ومن خلال دورهم في العديد من الجمعيات الخيرية ولجان الإغاثة يظهرون الوجه الإنساني للإمارات.
ومن جهة أخرى نرى أننا، وعلى مستوى الدولة والحكومة في الإمارات، نؤصل قاعدة أن الاهتمام بالمواطن يمثل ركيزة أساسية في فكرنا وعملنا، ومثل هذه المقاربة الراقية تمثل برنامج عمل لابد من تطويره وإنضاجه. فالوطن ليس رقعة جغرافية تمتد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، بل هو انتماء وتكاتف وتعاضد وحرص على الحاضر واستعداد للمستقبل، ومثل هذه القناعة نراها في العديد من الجوانب، نراها في الحرص على ألا يسلب الغلاء بهجة الحياة من المواطن، ونراها من خلال القلق من تدني مستوى التعليم والخدمات الصحية، بل ومن الحرص على أن تستمر العجلة الاقتصادية الخيرة التي تميز بها الوطن، كما نرى الإمارات في أجمل صورها من خلال التعامل مع الرأي المختلف كجزء من الأسرة الواحدة ومهما اختلفنا معه. فمثل هذا التضامن والتلاحم الاجتماعي، يفسر وإلى درجة كبيرة، استقرارنا السياسي والاجتماعي برغم محيطنا الإقليمي والذي يعاني من الاضطراب وعدم الاستقرار وغلبة لغة العنف على لغة الحوار.
وبرغم أننا دولة صغيرة بالمقاييس الكمية إلا أننا دولة كبيرة بالمقاييس النوعية، أقولها صادقاً مع نفسي وأقولها بكل ثقة واطمئنان، فالوطن الذي يجعل نصب عينيه كرامة أبنائه وسعادتهم، وطن كبير مهما صغرت أو كبرت مؤشراته الكمية، ولعل التعامل مع رعايانا في العديد من الحالات مؤشر على هذه الحقيقة، وتحرك الدولة في الأيام الأخيرة لحماية مواطنيها من إعصار "ريتا"، وفي قارة أخرى بعيدة عنا آلاف الأميال، تأكيد لما أطرحه من أن تعزيز الانتماء الإماراتي يتم من خلاله حرص الوطن على مواطنيه وحرص المواطن على الوطن. إنه حقاً طريق مزدوج واسع ذو اتجاهين يعزز العلاقة بين الوطن والمواطن من خلال الأفعال والأعمال.
ففي حالة "ريتا" تحرك الوطن سريعاً ليضمن سلامة مواطنيه في هيوستن وتم إجلاؤهم بكل نظام وحرص، فكانت القيادة السياسية والمؤسسة الدبلوماسية على قدر المسؤولية، وامتدت رعاية الوطن بعيداً لترعى وتحمي مواطنيها، وفي مثل هذا الحرص بدا لنا وطننا كما نريده شامخاً حنوناً وحضارياً، وطن ينتمي إلى العالم الأول ويدرك أن الوطن والمواطنة ليست شعارات طنانة رنانة بل حرص أبوي على سائر الأبناء. وهذه هي القيم التي تبقى، مواطن يحرص على الوطن ووطن يحرص على المواطن.