قد يبدو في المقال بعض الغرابة، لكن الغباء اليوم يعد من النعم الكبيرة على الناس، لأن الأذكياء محاربون في كل شيء، دعونا نبدأ بتربية الغباء وفي تصوري أن هذا الموضوع يبدأ عمليا في المدرسة، فالأصل في التلاميذ الذكاء، طبعا باستثناء بعض الحالات العقلية. لو تأملنا حال التلاميذ قبل المدرسة لأدركنا هذه الحقيقة فهم في قمة الذكاء والدهاء والفطنة، فالطفل الصغير اليوم يجلس بجانب والده وهو يتعامل مع الكمبيوتر، وبعد فترة من الملاحظة وفي غفلة من الوالد إذا بهذا الطفل متمكنا من فتح الحاسوب ومن ثم التعامل معه. لو تأملنا في حال الأبناء وهم يتعلمون من بعضهم بعضاً أعقد الألعاب الإلكترونية لأدركنا هذه الحقيقة، وأتحدى معظم الآباء تمكنهم من اللعب مع الأبناء والطريف في الأمر كيف يتعلم الأبناء وبهذه السرعة من أقرانهم أو عن طريق التعلم الذاتي فنون هذه الألعاب، ونفاجأ عندما يلتحق التلاميذ بالمدرسة بالتقارير الأولية التي تشير إلى أنهم أغبياء وغير قادرين على التعلم، إنها الرسالة الأولى التي يرفعها هؤلاء الأغبياء بأعلى صوتهم كي يقولوا للمعلمين ولأسرهم وللمجتمع، لست غبيا ولكن.
المشهد الثاني من مشاهد الغباء هو في الخطاب السياسي العربي، فمن يتابع بعض القنوات الإعلامية العربية، يعتقد أن هذا الإعلام موجه للأغبياء فقط، فالخطاب السياسي في بعض الدول العربية، ما زال يعيش في أوائل هذا القرن عندما كانت الدول تتحكم في المعلومات الواردة إليها فلا تسمح إلا بما يتماشى مع أهواء من يدير دفة السياسة في تلك الدول، فكم يضحك المواطن العربي وهو يتابع نشرات الأخبار والتقارير المحلية العربية التي تؤكد أن كل شيء على أحسن حال، بينما يتابع هذا المواطن العربي التقارير المؤكدة والمتخصصة والتي تشير إلى اقتراب وقوع أزمات متعددة هذا إن لم تكن قد وقعت فعلا. هذا الخطاب يفترض في المواطن العربي الغباء لأنه يخاطب عقولا كان من المفترض أن تصدق كل ما يقال لها، وكم نسمع من تصريحات في بعض الدول العربية متناقضة مع واقع المواطن العربي اليومي. لم هذه التصريحات كذلك؟ لأنها تفترض غباء هذا الإنسان، ففي بعض الجمهوريات الديمقراطية العربية، يضحك المواطنون هناك من هذه الديمقراطية التي يرون فيها أسماء وتصريحات، لا يصدقها الواقع. هناك يصرخ العربي بكل صوته كي يقول: لست غبيا ولكن.
عندما تتحدث إلى العربي وهو في بلده حول أوضاع هذا البلد أو ذاك تجد صوتا مخنوقا يخشى صاحبه أن تسمعه أذنه، لأن الأصل عند العرب سياسة الصمت، وحقيقة لو التقيت بنفس العربي في خارج المنطقة العربية، في ندوة أو مؤتمر لرأيت أنه انقلب من الجنوب إلى الشمال بمجرد مغادرة وطنه. الصامت عند العقلاء خطير لأننا لا نعلم فيما يفكر، وقد يتهور في يوم من الأيام بأعمال رأينا بعضها في دول كانت تخطط لكل شيء إلا ما حصل فيها من أحداث، إن الصامت إنسان خطير، لذلك تتعمد الدول عقد المنتديات وفتح قنوات الحوار والنقاش كي تسمع من الناس، وإلا فإن هذا الصامت وإن بدا لنا غبيا إلا أنه يهتف في أعماق قلبه، لست غبيا ولكن.
المشهد الأخير للغباء هو في هز الرؤوس بالموافقة دائما، فكم هي الاجتماعات التي تعقد، لكنك تعجز عن تحريك شفاه الناس بالكلام، بل إنهم موافقون إلى أقصى درجات الاتفاق وشعارهم في هذا:
وليس الغبي بسيد قومه **** ولكن سيد قومه المتغابي
هذا الشعار يفهمه البعض خطأ عندما يوافقون على كل شيء، أو عندما لا يبدون أي نوع من أنواع الفكر السديد، إن لم نسمع للآخرين فهذا لا يعني أنهم أغبياء لأنهم في أعماقهم يرددون مع الغير، لست غبيا ولكن!!