أجمل الفلسفة تدفق من تأمل الموت، وأجمل ما كتب باسكال في كتابه (الخواطر): نحن نأتي من العدم ثم نعود إليه. نحن في اللحظة الواحدة بين اللانهاية التي تغمرنا والعدم الذي قدمنا منه، ونحن معلقون عند هذه الحافة، فلا نفهم العدم الذي جئنا منه، ولا اللانهاية التي نحن إليها قادمون. مع هذا فنحن بالنسبة للعدم كل شيء، ونحن بالنسبة للانهاية صفر ولسنا بشيء.
لماذا كانت كل لحظة فرح ممزوجة بالحزن؟ ولماذا يتكلل كل زواج بالموت؟ ولماذا كان الإنسان وحشاً وقديسا؟ لماذا امتزجت اللذة بالألم؟ ولماذا نعيش مع أحب الناس ثم نضطر لوداعهم في لحظة لا ريب فيها مجللة بضباب الغيب؟ حتى إذا صدمنا بصدمة الموت استيقظنا كأننا نيام؟ فمن يحل لنا هذا التناقض؟
أكتب هذه الأسطر في مدينة مونتريال الكندية بعد أسبوع من وفاة زوجتي وغيض الماء بعد إعصار (كاترينا) في أميركا الذي طم الناس في الجنوب بماء منهمر فاجتمع عليهم الخوف والغرق والهرب فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم.
أكتب هذه الأسطر وقد أصبحنا فلاسفة بدرجة أكبر فليس مثل الموت درب إلى الفلسفة، وفي ظل الموت تتبدل أولويات الحياة وتتهمش كل القضايا، وتسحق الطبيعة الفرد سحقا - كما يقول شوبنهاور- ولا تبالي، في الوقت الذي تحافظ على النوع بعناد وإصرار.
إن الكلمات لم يعد لها معنى، ولكن لم يعد لنا إلا الكلمات أيضا.
قالت لي صديقتها العراقية: إنك مثل العاشق الولهان الغارق في الحب، لا تستطيع التوقف عن التفكير بها والحديث عنها؟ ثم تابعت حتى عندما لا تبكي الدموع فإنك تبكي الكلمات…
كانت ليلى تعشق التفاصيل والأفكار وتركز كثيرا على أهمية الذوق الجمالي، ولكن بغيابها صرت أشعر أنها تعيش في كل شيء جميل، في تفتح البراعم، في حمرة الأزهار، في نضرة الحياة وأوراقها، في كأس ساخن من القهوة، في كتاب مثير، في وجه صديق محب، في قمة الأفكار، والسياسة، والتاريخ، ولكن في تفاصيل الحياة الصغيرة وضحكاتها، واللعب مع الأولاد، والأطعمة اللذيذة، ومناظر الطبيعة الجميلة...
لقد تركتنا مثل الرياضي الذي يعتزل في قمة لياقته وحضوره وجماله. وماتت كالغزال الرشيق القوي. جميلة، رياضية، وبشرة نقية صافية، ووجه مورد، وأصابع طويلة رفيعة. وشعر كثيف نضر.
كانت بسمتها دائما كالشمس التي تشرق في وجوهنا، وكانت صحبتها كيوم مشمس، وغيابها كيوم غائم ستعود بعده الشمس الدافئة والابتسامة الرائعة.
كانت تحب أن يحب الجميع بعضهم. وعندما رأت فيلم المسيح وهو يقول لأصحابه، "أريدكم بأن يعرفكم الناس من بعدي بأنكم أنتم الذين تحبون بعضكم وتحبون الآخرين". قالت كونوا هكذا كاملين.
كان اللاعنف والسلام ليس قضية سياسية ولكن يومية معاشية تتخلل كل تفاصيل الحياة اليومية. حتى لغتنا وحوارنا وذوقنا كانت تريده أن يكون سلامياً.
كانت تقول إذا كان قلبنا يعتصر إلى هذه الدرجة من الألم أمام موت الذين نحبهم، إذا كانت الزلازل والأعاصير والأمراض تأتي وتدمرنا وتخطف أحبابنا، فكيف نضع الأموال والجهود على بناء أجهزة وأسلحة لتقوم بهذا الدمار، وتجني الموت؟
كانت توظف ألم الموت في توسيع دائرة الرحمة، واللاعنف والسلام.
كانت تقول عن الحياة إنها كتاب، وبأن الموت هو نهاية الحبكة، وأننا في حالة صيرورة دائمة. وكانت تقول لا تجعل الحبكة تنتهي وأنت ما زلت على قيد الحياة، ولا توقف الصيرورة. ولهذا كانت ترى الموت بأنه انتهاء الحبكة. تستطيع أن تعود وتقرأ الكتاب، ولكن الحبكة انتهت. وكم هي الآن كتاب رائع، وكم أريد أن أقرأه وأعيد وأعيد قراءته...
كانت تقول إذا كانت الطلبات ستحقق في الجنة، فهي لا تريد أنهارا من عسل وجبالا من ذهب وحريرا واستبرقاً. كانت تقول إنها تريد المعرفة، الحقيقة، وبالأخص المعرفة التاريخية. كانت تقول إنها تريد أن ترى التاريخ البشري كله يعرض أمامها، ما حصل فيه من تفاصيل، كما حصلت تماما، مرافعة سقراط، ما حدث للمسيح، ما حدث في السيرة، وحتى الأشياء الصغيرة مثل اغتيال كيندي. وكانت تقول إنها تريد أن تتعرف إلى العظماء، الأنبياء والفلاسفة وأن يكون بإمكانها الجلوس والتحدث إليهم. حتى في جنتها فإن المعرفة والتاريخ والعلم كانت هي الأهداف النهائية لليلى، ومتعتها الحقيقية.
دفن الجسم بالثرى ليس بالجسم منتفـع
إنما النفع بالــذي كان بالجسم وارتفع
أصله جوهر نفيس وإلى أصله قد رجع