في الأسبوع الماضي صعد الرئيس بوش مجدداً إلى منصة المسرح السياسي المحلي والعالمي على حد سواء, غير أن هذا الصعود كان مصحوباً بتدني شعبيته في أوساط الرأي العام الأميركي, إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق. كان الأمر قد بدأ كله يوم الثلاثاء الماضي, على إثر انحناء بوش أمام عاصفة الانتقادات التي وجهت لإدارته, بسبب ضعف أدائها في التصدي لكارثة إعصار "كاترينا" الأخير. وقد أثار امتثال بوش للانتقادات وقبوله للوم الذي ألقي على إدارته, استغراب المعلقين السياسيين الذين لاحظوا ندرة رضوخه للنقد واعترافه بالتقصير والخطأ. صحيح أن هذا السلوك ربما يكون نادراً واستثنائياً لدى بوش, غير أنه لاشك ذكي جداً هذه المرة. كيف لا وقد بدا الخصام اللاحق للكارثة مقلقاً وحاملاً لبذرة الدمار السياسي, خاصة مع تبادل اللوم واللوم المضاد, بين الجمهوريين والديمقراطيين, مما يعني أن أحداً لن يفوز بسباق لعبة تبادل اللوم هذه.
ويكمن ذكاء بوش في إظهاره روح القيادة, وتحمل المسؤولية عن الخطأ, مما أسفر عن تغيير نبرة الخصام نفسها, وطبيعة الجدل العام الذي ثار في أعقاب الكارثة. وليس أدل على ذلك من تغير مواقف حاكمة ولاية لويزيانا, شديدة الانتقاد للبيت الأبيض, بسبب ضعف استجابته لنداء الكارثة, وقبولها جزءاً من اللوم والانتقاد على ما جرى, إثر حديث الرئيس بوش وامتثاله للنقد. يذكر أن الحاكمة نفسها قد ووجهت بحملة انتقادات حادة وعنيفة من قبل مؤيدي بوش, بعد اعتراف الأخير بالتقصير والخطأ. والنتيجة أن ملامح علاقة جديدة بدأت تتشكل بين ولاية لويزيانا المنكوبة وحكوماتها المحلية المتعددة من جهة, وإدارة البلاد من جهة أخرى.
هذا وقد مهدت كل هذه التغيرات في المناخ السياسي العام, الأجواء الملائمة لخطاب الرئيس بوش الذي ألقاه يوم الخميس الماضي. وبالفعل وفق الرئيس في إلقاء أكثر الخطب السياسية المنسوبة لإدارته نجاحاً على الإطلاق, من "ساحة "جاكسون التاريخية وعلى خلفية كاتدرائية سان لويس. وبدا بوش صادقاً في انفعاله بالمأساة, وصاحب رؤية لمواجهتها وتفاديها, فضلاً عن ثقته وإمساكه بزمام القيادة. وفي ذلك الخطاب أيضاً, كرر بوش امتثاله للنقد وقبوله للوم الموجه له, بسبب التقصير وضعف الأداء الإداري, مقترناً بالتعهد الذي قطعه على الأمة الأميركية, بتعقب القصور ومعرفة أوجه الخلل والمسؤولين عنه. بل مضى بوش إلى ما هو أكثر من ذلك بطرحه للخطوط العامة لخطط إعادة الإعمار الشامل الطموحة, التي لن تقتصر على مدينة نيوأورليانز وحدها, وإنما ستشمل منطقة ساحل خليج المكسيك بأسرها.
والأكثر إثارة في خطاب بوش الأخير, تصديه لقضايا العرقية والطبقية الاجتماعية التي كشفت عنها كارثة "كاترينا". واعترافاً منه بأن للفقر في ذلك الجزء من البلاد "جذوراً تاريخية ضاربة في ممارسات التمييز العرقي", فقد أعلن بوش الملامح العامة لبرنامج يعطي الأولوية لتوفير الفوائد والمكاسب الاقتصادية الخاصة للفئات الاجتماعية المعدمة, في إطار الخطة الشاملة لإعادة إعمار المنطقة.
ثم إن هذين الخطابين لم يكونا الوحيدين اللذين قدما جورج بوش في حلة رئاسية جديدة, خلال الأسبوع الماضي. فقد كان الخطاب الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة, يوم الأربعاء الماضي, لافتاً للنظر والاهتمام هو الآخر. الجدير بالاعتبار أن الخطاب الأخير, لا يقتصر صداه السياسي والإعلامي, على تصدره للعناوين الرئيسية لصحيفة "نيويورك تايمز" وبقية كبريات الصحف الأميركية فحسب, وإنما امتد إلى تعليقات المراقبين الصحفيين والسياسيين, الذين لاحظوا أنه الأكثر قرباً من نبرة الرئيس بوش, لحظة توليه مقاليد الحكم في البيت الأبيض لأول مرة عام 2000. وأكثر ما شد انتباه المراقبين والمحللين, أن الخطاب الرئاسي الأخير, أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة, بدا أكثر تجسيداً للروح التي خاض بها بوش الحملة الانتخابية الرئاسية لذلك العام, حيث كان أكثر تواضعاً واعتدالاً وتوازناً في دعوته إلى سياسات خارجية أميركية "أقل صلفاً وغروراً". فهل يشكل الخطابان منعطف تغيير في اتجاهات وسياسات إدارة بوش؟