غزا إعصار "كاترينا" الساحل الأميركي وافترس مدينة نيوأورليانز وأزالها بأكملها من الخريطة، وأضحت المأساة حديث العالم بكل آلامها وويلاتها وفضيحة ضعف تعامل بوش الصغير و"محافظيه الجدد" معها، وأكدت الطبيعة قدرتها على فرض الهزيمة الساحقة لكل من تسول له نفسه أن يتناسى تأثيرها، وتدفع الدولة العظمى إلى طلب مساعدة الكون في كارثتها.
حدثت الكارثة بأبعادها الإنسانية والمادية كلها، ولم تشفع التنبؤات والتوقعات المسبقة بحدوثها وتقدير خسائرها، وإعلان الإنذارات، ورفع حالات الطوارئ، وعرض محاكاة للحدث قدمته السينما الأميركية في أفلام عدة سابقة أبرزت خلالها توقعات عنف المأساة وعمقها، ولم تستطع أميركا التي تتربع منفردة على قمة العالم اقتصادياً وعسكرياً ومالياً وتقنياً وحضارياً الاستعداد الكافي للحد من آثارها وتوابعها.
حدثت الكارثة رغم صدور توجيه من الرئيس بوش الصغير قبل المأساة بيوم واحد برفع درجات استعداد الأجهزة الفيدرالية جميعها لتقديم المساعدة للأجهزة المحلية لمواجهة "كاترينا"، ولم تجر المعالجة المتوقعة للكارثة، ووقف العالم مشدوهاً أمام ضعف رد الفعل على المستويين القومي والمحلي، وانهيار منظومة القيم والمعتقدات الأميركية، الأمر الذي قاد إلى خسائر مادية وبشرية ونفسية وحالات اغتصاب ونهب وسرقة وفوضى وانتحار.
وليس علينا اليوم أن نبكي اللبن المسكوب، ونلوم الطبيعة الأم على غضبتها، ولكن المفترض أن نستخلص العبرة والدرس من عولمة هذه الكارثة، فلا توجد دولة في العالم بمنأى عن غضب الطبيعة. وهناك عشرة دروس يمكن أن نستخلصها من هذه المأساة نوجزها فيما يلي:
- يجب على الدول أن تهتم بأمنها الداخلي بنفس قدر اهتمامها بأمنها الخارجي، ففي غمرة انشغال إدارة بوش الصغير وأعضاء إدارته بتحقيق أحلامهم وطموحاتهم لفرض الهيمنة الأميركية على العالم نسوا أو تناسوا مسؤولياتهم الداخلية في توفير أكبر قدر من الحماية لمواطنيهم ضد الكوارث الطبيعية، وتحقيق أقصى قدر من الأمان الشخصي والاستقرار الأسري لهم ضد غضبة الطبيعة.
- إن الاستعداد لمواجهة الكوارث جزء لا يتجزأ من مرتكزات الحفاظ على الأمن القومي للدولة، ويفرض وجود نظام أو أسلوب محدد وواضح للتعامل معها؛ خاصة أن الكوارث تحتاج إلى استدامة الإغاثة واستمرار عملية إعادة الإعمار، وبذل جهود هائلة لإعادة التأهيل.
- إن إدارة الكوارث علم واقعي يختلف عن إدارة الأزمات، لا يصلح معه الوقوف عند حدود التوقعات والتنبؤات والإعداد النظري لمواجهتها، بل تبرز الحاجة إلى الواقعية في تحديد حجم الخسائر المتوقعة بأبعادها الإنسانية والمادية والنفسية كلها حتى يكون العلاج ناجعاً وفي الوقت المناسب ويتدرج وفق تطورات الوضع الكارثي، فالخسائر في الأزمات قد تحدث إذا لم تتم الإدارة الناجحة للأزمة، في حين أن الكارثة تبدأ بالخسائر الفادحة أولاً إذا لم يتم الاستعداد الكافي لحصارها.
- إن مواجهة الكوارث تحتاج إلى تضافر جهود أجهزة ومؤسسات ووزارات الدولة جميعها، ويجب عليها أن تبادر بممارسة مسؤولياتها وواجباتها وتقديم كل ما يمكن من مساعدة لدرء تداعيات الكارثة والحد من آثارها وتقليل مدة التعامل معها، ولا تنتظر توجيهات أو تعليمات أو أوامر لأن الوقت والظروف لا يسمحان بذلك.
- إن للمجتمع في نكباته دوراً كبيراً، ولا نقصد المجتمع المحلي الذي أضير بالكارثة، ولكن نقصد الشعب بأطيافه وطوائفه كلها، لعلاج الآثار النفسية والاجتماعية المترتبة على الكارثة، وبإظهار التكاتف والتعاطف والترابط مع المتأثرين مباشرة بالكارثة بعد أن فقدوا المأوى ومصدر الرزق والاستقرار الاجتماعي والأمن الوظيفي وباتوا لا يملكون من حطام الدنيا أي شيء.
- مهما بلغت درجة تحضر المجتمع أو تقدمه العلمي والتقني فإن معدن النفس البشرية ومنظومتها الإيمانية يظهران في وقت الأزمات والكوارث والشدائد، فإذا افتقدت هذه النفس القيم والمبادئ والوازع الديني، تظهر الطبيعة الإنسانية الشريرة والحاقدة على حقيقتها، وتسعى إلى استغلال الظروف لتنطلق من عقالها لتعيث الفساد وتنشر الذعر وتزيد من عمق المأساة، لذا فإن إعداد المواطن الصالح المتمسك بقيمه ومبادئه وانتمائه لوطنه ومجتمعه هو الوحيد القادر على مواجهة المحن وتجاوز آثارها.
- إن أية دولة في العالم مهما عظم قدرها وتنامت قوتها تظل في حاجة إلى دعم الدول الأخرى في محنها ونكباتها وكوارثها، ويتراوح هذا الدعم ما بين التعاطف والمساندة المعنوية إلى تقديم المساعدات الإنسانية والمادية، ومن ثم يجب أن تضع الدول في اعتبارها عند صياغة سياستها الخارجية واستخدام آلاتها العسكرية في الغزو والعدوان والانتقام، أنها تظل بحاجة إلى الحلفاء والأصدقاء؛ وعليها أن تحترم مصالحهم وتوجهاتهم ورؤاهم.
- إن الكوارث، سواء الطبيعية أو الصناعية، عندما تأتي لا تفرق بين دولة عظمى وأخرى صغرى، ولا يمنع الحذر من القدر كما يقولون، ولكن يظل الكثير من الكوارث الطبيعية "ليست طبيعية" وتحدث نتيجة لنقص ممارسات الإد