على عكس ما يعتقد الكثيرون، لا تقتصر وظائف المخ البشري فقط على التحكم في حركة الجسد، والقيام بالوظائف العقلية العليا، مثل الوعي والعواطف والذاكرة وأشكال التعلم المختلفة، بل تتضمن أيضا تنظيم البيئة الحيوية الداخلية للجسد، من خلال التحكم في ضربات القلب، وضبط درجة حرارة الجسم، وتنظيم تدفق السوائل، وغيرها.
وهذه الوظائف المتنوعة للمخ، جعلت من توقفه عن العمل، شرطاً أساسياً للكثير من تعريفات الوفاة. فبالإضافة إلى القلب، كثيراً ما يعتمد تشخيص الوفاة، على أساس الحالة الحيوية للمخ. هذه الوظائف جميعها، والتي يلعب فيها المخ دور المشرف العام على الجهاز العصبي المركزي، لم يتمكن الإنسان من فهمها وإدراك أبعادها، إلا منذ زمن قصير؛ ففي اليونان القديمة مثلا، ارتأى الطبيب اليوناني الشهير "أبوقراط" أن المخ هو موقع الذكاء البشري، بينما اعتقد "أرسطو" أن المخ لا يزيد على كونه جهاز تبريد للدم، أما الذكاء فحدد "أرسطو" موقعه بالقلب. وبناء على هذا الاعتقاد، فسر "أرسطو" عقلانية الإنسان مقارنة بالحيوانات، على أنها نتيجة لتمتع الإنسان بمخ ذي حجم أكبر، يقوم بتبريد الدم بشكل أفضل، ولذا يسمح بقدر أكبر من العقلانية، مقارنة بالحيوانات. وإذا ما كان "أرسطو" أصاب في شيء، فهو حقيقة أن المخ البشري بالفعل بالغ التعقيد، وكبير في حجمه بالنسبة للحجم الكلي للجسم البشري، مقارنة بحجم أمخاخ الحيوانات بالنسبة لأجسامها. وتنطبق هذه الحقيقة أيضاً عند وضع نسبة استهلاك الطاقة في الاعتبار. فالمخ البشري الذي لا يزيد وزنه على كيلوجرام واحد ونصف، يستهلك عشرين في المئة من الطاقة التي يستهلكها الجسم كله خلال اليوم الواحد، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى ستين في المئة لدى الأطفال الرضع.
ورغم مرور قرون عديدة على الخلاف اليوناني حول طبيعة وظائف المخ، فلا يزال هناك خلاف بين العلماء حول الموضوع نفسه. فالفلاسفة مثلا، ينظرون إلى المخ والعقل على أنهما وجهان لعملة واحدة، بينما يرى منظرو ومؤيدو الذكاء الاصطناعي، أن المخ لا يزيد على كونه "الهارد-وير" (Hardware)، بينما يشكل العقل جزء "السوفت-وير" (Software). هذه المشكلة، وغيرها الكثير، المتعلقة بالعلاقة بين المخ والعقل والروح والشخصية، نتج عنها فرع كامل من الفلسفة، يعرف بفلسفة العقل (Philosophy of Mind)، والذي يحاول الإجابة على بعض الأسئلة الأبدية. مثل، ما هو الشعور؟ وهل تتمتع الكائنات الأخرى بشعور مثل الإنسان؟ وما العلاقة بين الشخصية والعقل؟ وبين الروح والمخ؟ وبينما يقدح العلماء والفلاسفة أذهانهم، في محاولة لفهم وظائف المخ وللإجابة على الأسئلة المتعلقة، تتداول معتقدات ومفاهيم كثيرة خاطئة عن المخ والعقل والذكاء وماهيتها، وهي المعتقدات التي وصلت في بعض الأحيان إلى حجم الأساطير. وربما كان أكثر تلك المعتقدات انتشاراً، وأحياناً حتى بين الأطباء، أن الشخص الطبيعي لا يستخدم في حياته اليومية أكثر من عشرة في المئة من خلايا مخه. وهو ما يعني أننا نحمل في داخلنا طاقة فكرية وذهنية، أضعاف ما نستخدمه بشكل يومي روتيني. هذه المقولة، تعتمد على حقيقة مؤكدة فعلاً، ولكن تم تحريف مغزاها وتشويه معناها. ففعلا، وبالنظر فقط إلى النشاط الكهربائي لخلايا المخ في لحظة أو ثانية ما، لا نجد إلا عشرة في المئة منها في حالة إطلاق للنبضات الكهربائية، أو استقبالها من الخلايا الأخرى. ولكن، لو أطلقت نسبة أكبر من خلايا المخ نبضاتها الكهربائية في نفس الوقت، والتي يزيد عددها على بضعة مليارات، فلن يصبح المرء أكثر ذكاء وأقوى ذاكرة، بل سيصاب بنوبة من التشنج والإغماء. وهو ما يحدث بالفعل في نوبات الصرع، حينما يطلق عدد كبير من الخلايا نبضاته في نفس اللحظة.
ومن المعروف أن جميع خلايا المخ تؤدي دائما وظيفة ما، حتى ولو لم يتمكن العلماء من تحديد طبيعة ونوعية هذه الوظيفة حتى الآن. والمنطق الذي يبنى عليه ذلك المفهوم الخاطئ، بأننا لا نستخدم إلا عشرة في المئة فقط من خلايا مخنا، هو القانون الطبي الذي ينص على أن (العضو الذي لا يستخدم يضمر). فالجسم البشري، ولهدف الترشيد والاستغلال الأفضل للمصادر المتاحة، يعمل على خفض الطاقة والعناصر الغذائية والأساسية، المخصصة للأعضاء التي لا تستخدم أو يقل استخدامها. وهو ما يمكن أن نراه في العضلات مثلا، فما لا يستخدم منها يضمر ويصيبه الهزال بمرور الوقت. وما يحدث في المخ البشري، هو على العكس من ذلك إلى حد ما. فبخلاف النسبة المرتفعة من الطاقة التي يستخدمها المخ البشري بشكل يومي، صدرت في بداية هذا الأسبوع دراسة، أثبت فيها العلماء أن المخ البشري لا زال في مرحلة تطور طبيعي، سريعة الإيقاع إلى حد كبير. ففي الدراسة التي صدرت عن جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة، قارن العلماء بين مخ الإنسان الحديث ومخ أسلافه، ليجدوا أن أحد الجينات المسؤولة عن زيادة حجم المخ، شهد تغيرات واضحة في تركيبه، قبل بضعة آلاف من السنين فقط. وبما أن مثل هذه الفترة الزمنية تعتبر غمضة عين في تاريخ التطور ال