الدستور ليس هدفاً، بل وسيلة لتنظيم العلاقات بين سلطات الدولة من ناحية وفئات المجتمع من ناحية ثانية، في إطار سياسي يحدد هذا الدستور أركانه. وفي معظم دول العالم دساتير تقنن نظماً سياسية مختلفة بل متناقضة، كما أن هذه الدول نفسها متباينة تبايناً شديداً في مستوى تطورها السياسي والاجتماعي، وفي درجة تقدمها أو تخلفها.
وهناك، في المقابل، عدد أقل من الدول استغنى عن الدستور، لوجود تقاليد سياسية واجتماعية مرعية وموضع توافق ضمني. وفي كل الأحوال، لم يكتسب الدستور أبداً قدسية تعصمه من التغيير كلاً أو جزءاً. فقد غير كثير من الدول دساتيره أكثر من مرة، بما في ذلك دول ديمقراطية معروفة مثل فرنسا التي يختلف دستورها الحالي مثلاً اختلافاً جذرياً عن الدستور السابق الذي صدر في عام 1875. كما جرى تعديل دساتير دول ديمقراطية أخرى عدة مرات، مثلما حدث في الدستور الأميركي.
ولذلك كله يبدو غريباً مثيراً للدهشة ما حدث في العراق خلال الأسابيع الأخيرة، فقد أخذت اللجنة المكلفة صوغ دستور "دائم"، ومن ورائها الكتلتان الكبيرتان "الشيعية والكردية" في البرلمان، تسابق الزمن للانتهاء من كتابة هذا الدستور في الموعد المحدد في 15 أغسطس الماضي.
وكان هذا خطأ جسيماً يضاف إلى سلسلة أخطاء كبرى ارتكبتها سلطة الاحتلال منذ اليوم الأول بعد إسقاط النظام السابق. وبعد أن حاولت الحكومة المؤقتة السابقة تصحيح بعض هذه الأخطاء، جاءت الحكومة المؤقتة الحالية فأزالت بعض آثار هذا التصحيح وارتكبت أخطاء جديدة آخرها حتى الآن، الإصرار المدهش على الانتهاء من مسودة الدستور وعرضها للاستفتاء العام بالرغم من عدم توفر أحد أهم شروط عملية إعداد هذا الدستور، وهو التوافق بين القوى الأساسية في المجتمع العراقي.
فإذا كان احترام المواعيد أمراً محموداً، فاحترام القواعد المتفق عليها هو أمر أكثر من محمود. وإذا تعارض الالتزامان -بالموعد والقواعد- وصار محتماً احترام أحدهما، وجب إعطاء الأولوية لاحترام القواعد، ومن بينها قاعدة التوافق الوطني في إعداد مسودة الدستور.
غير أن الحكومة العراقية الحالية قدمت الموعد على القواعد التي ينبغي مراعاتها، ولم يكن هذا إلا أحد جوانب خطأ جسيم قد يدفع العراق وشعبه ثمناً فادحاً له في الشهور القليلة المقبلة. بدأ الخطأ بإضفاء قدسية زائفة على مسألة الدستور، ثم وصفه بأنه دائم بالرغم من أن العالم لم يعرف دستوراً دائماً واحداً في أي بلد من بلاده. وخطأ هذه بدايته يصل، في نهايته، إلى التعامل مع مسألة الدستور كما لو أنها غاية عليا في حد ذاتها، وليست مجرد وسيلة لإيجاد وضع أفضل.
وقد يقال، هنا، إن كتابة الدستور جزء لا يتجزأ من العملية السياسية الهادفة إلى بناء نظام جديد في العراق وفق الإطار الذي وضعه مجلس الأمن وتوافق عليه معظم العراقيين. وهذا صحيح، ولكن العملية السياسية في العراق هي برمتها وسيلة لإعادة بناء هذا البلد. فإذا تبين أن هذه الوسيلة، أو أي جزء من أجزائها، لا يساعد في تحقيق الهدف بل قد يعوق إنجازه، تصبح مراجعتها واجباً وضرورة.
وقد ظهر بجلاء عندما بدأت لجنة كتابة الدستور عملها، أنه قد يستحيل التوافق على المبادئ والأسس العامة لهذا الدستور. ويعني ذلك، بالتالي، أن مواصلة هذه المهمة يمكن أن تفجر تناقضات قائمة يحتاج تجاوزها إلى وقت أطول. وفي هذه الحال، يصبح إرجاء المهمة إلى فترة لاحقة هو الموقف الصائب، خصوصاً إذا كان هذا التأجيل ممكناً بدون أضرار عاجلة أو آجلة. ولم يكن في تأجيل كتابة الدستور أي ضرر سوى تمديد المرحلة الانتقالية. وهذا ضرر من النوع الذي يقصده القول المأثور "رُبّ ضارة نافعة"، خصوصاً إذا أمكن التوافق على إجراء الانتخابات المقررة في ديسمبر القادم في موعدها، مع إعادة جدولة الاستحقاقات المقررة في قرار مجلس الأمن بحيث تكون مهمة الحكومة التي ستشكل عقب هذه الانتخابات هي تحقيق التوافق الوطني على الأسس الرئيسية للنظام الديمقراطي المأمول على نحو ييسر كتابة دستور متوافق عليه.
والأرجح أن هذا الترتيب الجديد كان ممكناً أن يثمر في وقت قصير، لأن القوى التي قاطعت أو أرغِمت على مقاطعة انتخابات يناير الماضي ستشارك في انتخابات ديسمبر القادم. وهذا تطور من شأنه أن يؤثر إيجاباً في المشهد السياسي بأكمله. ولا عيب، في هذا السياق، في استمرار العمل بقانون إدارة الدولة المؤقت حتى يتسنى إعداد دستور ينقل العراق خطوات إلى الأمام.
ولكن ما حدث هو الإصرار على كتابة مسودة تجر العراق خطوات إلى الوراء، خصوصاً في حال عرضها للاستفتاء العام دون تعديل يحقق حداً أدنى من التوافق الوطني عليها. ولذلك فالسؤال المحوري الآن هو: هل يكون رفض مسودة الدستور في هذه الحالة خلال الاستفتاء العام عليها خيراً للعراق وشعبه؟
للإجابة على هذا السؤال، يجدر بنا أن نحاول تصور النتائج التي يمكن أن تترتب على كل من سيناريو إقرار مسودة الدستور وسيناريو رفضها في الاستفتاء العام. فإقرار المسودة يؤدي إلى تثبيت الانقسام الراهن،