في الفترة الأخيرة ولأغراض متابعة التغيير الذي يعصف بالمنطقة أصرت هيئة الإذاعة البريطانية في بثها العربي على تدوير مسمع صوتي ترويجي لبرامجها وهو مسمع اتسم الاختيار فيه بالذكاء لجهة جذب أكبر عدد من المستمعين ولجهة أخرى بدت كمحاولة لتقديم صورة عن ذهنية المواطن العربي في تعامله مع الواقع السياسي. وقبل تحليل هذا الخطاب الإعلامي دعونا نسمعه بالكلمات يقول المواطن العربي البسيط :(أنا ممكن أشوف البحر من غير ميّه! ولكن لا يمكن أشوف البلد من غير فلان). ربما يكون هذا المواطن العربي البسيط والشريف مدفوعاً بحمية وصدق ليطلق هذه العبارة في مقابل ملايين العبارات التي تشرح الوضع السياسي وتفند الوضع الاقتصادي للطبقات المسحوقة في الواقع العربي وتقدم صوراً عن الفساد وانتهاك القوانين وانتهاك حريات الأفراد، ومهما تكن نتائج التجربة فإن هذا الأمر يقرره المواطنون مع التأكيد على أهمية انعكاسات هذه الممارسة على الدول العربية قاطبة.
أعود بكم لسياق الحديث محاولاً تحليل الذهنية التي يمكنها أن تنتج هذه النوعية من النفاق الاجتماعي وهو نفاق يبدو أنه متجذر في الذهنية العربية وفي الذهنيات المتخلفة التي تحاول أن تؤكد فكرة صناعة الصنم وحتى وإن كانت مواد صناعة هذا الصنم من التمر الذي يمكن أن يؤكل بعد انتهاء مراسم النفاق!!!
يحفل التاريخ العربي والإسلامي بنماذج كثيرة من صور التزلف والنفاق والرياء والمداهنة يشارك فيها أناس سذج ومن علية القوم ويشارك فيها شعراء متكسبون يطرقون الأبواب ليدخلوا مجلس الحاكم ويمنحوه ما يريد من راحة نفسية لتفريغ شحنات غضبه واصفين إياه بكل الأوصاف والصفات الخارقة والجليلة، وبقدر كبر حجم صرة الذهب تكبر مساحة الكذب ولا يترد الشاعر من إياهم من تحويل السلطان إلى نبي أو حتى إله قادر على منح الحياة. لقد ساهم شعراء السلطان وعلماء السلطان في تحويل الرمز إلى كائن مختلف في طينته وفكره عن البشر العاديين فهو وإن كان لا يجيد كتابة جملة واحدة يتحول إلى الأديب المفوَّه والعلامة الجليل.
إلى جانب الشعراء لعبت طائفة من أصحاب الفتاوى دوراً في تحويل السلطان لرمز ديني ومرجع فقهي باعتبار أن ذلك السلطان هو ممثل الخالق على الأرض وخليفته فقوله منزل وأمره دستور حياة.
في مقابل هذه النماذج المنافقة كانت توجد مجموعة من الزعامات العربية والإسلامية التي أصيبت حتى النخاع بمرض جنون العظمة وصدقت الكذبة وتماهت بها ومعها حتى صارت فكرة التميز والوصول إلى النوراني حقيقة ثابتة في وجدان هذه الشخصيات المريضة وقد وجد الشعراء المتكسبون ضالتهم وبغيتهم في هذه الشخصيات فراحوا يكيلون لها المديح ويصفونها بصفات لا توجد في البشر وبقدر ما كانت تنفتح خزائن الفضة والذهب بقدر ما كانت القصائد تحمل مديحا يزكم الأنوف .
شعراء وأصحاب عمائم وكتاب وكثير من لاعبي السيرك القادرين على النط فوق وتحت الحبال المشدودة على وتر الوجدان الإنساني.
قد تتفهم ظروف شاعر صعلوك متكسب يمتدح سلطانا جائراً, ولكن أن يقف مفكر عربي في مؤتمر ليمجد طاغية ويحوله إلى القائد الفذ والعبقري الذي لم تنجب الأمة له شبيها وأن النساء المسلمات والعربيات قد عقمن ولن تحمل أرحامهن صنوا له فان هذا هو النفاق أو كما يسميه كاتب مقهور ((عهر فكري)).
أن يقف مدعٍ للعلم أمام جمع من العلماء ليقول قصيدة عصماء ليصف بها زعيما ويحوله إلى رب الأرباء خوفا من العقاب أو انتظارا لمفتاح ذهبي لسيارة، فإن الأمر يحتاج إلى شرح وتحليل لا في مقالة بل في كتاب. أن يسقط رجل متعلم أو أن تسقط شاعرة تجلس على خزائن من ذهب لتصف طاغية بأنه سبب نزول المطر وهو سبب امتلاء الأرحام بالأجنة وهو سبب جريان النهر ضد قانون الجاذبية فإن الأمر يحتاج إلى مراجعة لا بل مراجعات لقراءة الذهنية العربية في انحدارها المريع نحو بؤرة منتنة ومحيط من الإفساد!!
إن خراب ضمائر القادة يكمن في هذا التردي الأخلاقي الذي سقطت في وحله بعض رموز الفكر العربي وبعض المدعين للفكر. أفهم كثيرا أن يحاول شاعر معدم التكسب من شعره في مجلس السلطان بتركيب مجموعة أبيات ترضي غرور سامعها ولكن مهما كانت التبريرات لا يمكن أن تفسر قيام مدعٍ يحمل مؤهلا علميا عاليا ويتمتع بمهارات سلق البيض وكنس الغبار أن يقوم بالتأرجح على حبال التزلف والنفاق مقابل سيارة أو قطعة أرض أو أصفار جديدة في كشف الحساب.
إن تحويل الرمز أو القائد إلى صنم أسطوري من خلال قناعات وهمية وتأكيد هذه القناعات ودعمها بالأدلة والبراهين العلمية وخاصة عندما يكون المداهن شخصية علمية أو رمزا اجتماعيا ينظر له على أساس أنه من قادة الرأي العام عندها تكون الكارثة مزدوجة حيث يقع الكثير من الناس البسطاء ضحية عمليات غسل مخ وتزييف وعي ويصدقون ما يقال وربما يجهرون به ويدافعون عنه مدفوعين بقناعات مؤكدة مصدرها شخصية علمية أو رمز اجتماعي.
الآفة تكبر وخراب الضمائر يتسع والأمر أكبر من مجرد مداهنة ورياء، إنه سلوك ربما يقود إلى خراب اجتماعي واقتصادي وسي