في تلك البقعة من الأرض الأميركية التي تمتلئ بالقنوات والروافد المائية، أمضى نهر المسيسيبي السبعة آلاف عام الماضية، وهو يشق طريقه في مجراه الطبيعي ثم يقوم من حين لآخر بتجاوز ذلك المجرى، ليغمر المناطق الممتدة على شاطئيه، والتي تمتد بدورها في عمق دلتاه مواصلة مسيرتها نحو خليج المكسيك. وبمرور الزمن أصبحت تلك الشواطئ المغطاة ببقايا أصداف الأسماك هي الطرق الوحيدة الممتدة عبر المنطقة.
في شبابه كان "ديفيد بويش" ابن مدينة "نيوأورليانز" معتاداً على قيادة سيارته بمحاذاة بعض هذه الطرق والتوقف لتأمل حشائش المستنقعات الممتدة نحو الأفق. وهو يتذكر أنه كان يقول لنفسه في ذلك الوقت "لن يبقى سوى عدد محدود من البحيرات هنا". أما اليوم، فإن الكثير من تلك المواقع تبدو للناظرين كما لو كانت بحيرات شاسعة الأرجاء مزركشة هنا وهنالك بمساحات متفرقة من الحشائش، وذلك كما يقول الدكتور "بويش" الذي أصبح حالياً هو رئيس مركز علوم البيئة في جامعة ميرلاند.
وفي الوقت الذي يقوم فيه المسؤولون الفيدراليون والمحليون بالتخطيط لإزالة آثار الإعصار "كاترينا"، الذي ضرب "نيوأورليانز" وإعادة المدينة بقدر الإمكان إلى سابق عهدها، فإن العديد من المتخصصين يقولون إنهم يتوقعون أن تؤدي هذه الكارثة إلى البدء بسرعة وقوة في إعادة بناء الجسور والجزر الحاجزة لمياه الأمواج العالية، والتي كانت موجودة قبالة الشاطئ. وهذه المعالم الطبيعية تعتبر هي خط الدفاع الأول عن "نيوأورليانز" ضد الأعاصير وأمواج البحر المرتفعة. وما حدث خلال نصف القرن الماضي كان هو أن الجسور والقنوات المخصصة لتقليص درجة الأضرار التي تحدث بسبب الفيضانات، وحماية أنابيب النفط ومنشآته، قد أضعفت تلك الدفاعات الطبيعية إلى درجة كبيرة.
في الوقت نفسه، نجد أن المخصصات اللازمة لتمويل الخطط الشاملة لبناء الجزر والجسور الواقية قد تقلصت إلى مستويات هزيلة. ففي عام 1998 على سبيل المثال، قامت الوكالات الفيدرالية والوكالات المحلية في الولاية بتقديم مشروع للترميم يستغرق 30 عاماً ولا يزيد المبلغ المخصص له على 14 مليار دولار. وهناك في الوقت الراهن مشروع خاص بمصادر المياه بقيمة مليارين لازال معلقاً ومنتظراً اعتماده بواسطة الكونجرس. والموافقة على هذا المشروع ستمنح التفويض اللازم لتنفيذ مشروعات ضخمة لتحويل مجاري المياه، وللقيام بمشروعات ضخمة لصيانة الجزر والجسور واستعادتها إلى ما كانت عليه. وهذه نقطة بداية في غاية الأهمية في الحقيقة وذلك كما يقول المحللون. ولكن إعصار "كاترينا" رفع هذا المشروع إلى درجة "حالة الطوارئ القومية" على حد تعبير أحد الأخصائيين.
وإذا ما قارنا تكلفة هذا المشروع بقيمة الأضرار التي سببها إعصار "كاترينا" والتي يقدر أن تصل إلى 26 مليار دولار، وإلى حزمة الإنقاذ والاستعادة التي يزمع الكونجرس المطالبة بها، والتي تقدر هي الأخرى بـ 10.5، فإن مشروع ترميم الجزر الحاجزة يبدو بشكل متزايد كحزمة تأمين معقولة التكلفة.
ويقول "سكوت فابر" خبير الموارد المائية بإدارة الدفاع البيئي بواشنطن تعليقا على ذلك:"هناك عدد من الجزر الحاجزة ومشروعات تحويل مجرى المياه التي أصبحت جاهزة للانطلاق اليوم". ويردف "سكوت فابر" قائلا: "لسوء الحظ فإننا لم نتعامل مع هذا الموضوع بذلك القدر من العجلة التي يستحقها، وخصوصاً في أعقاب ما حدث بعد أن أدى إعصار "كاترينا" إلى انهيار الجسور المقامة على سواحل الخليج، لذلك فإن الأطر الزمنية التي تخيلناها لاستكمال عملية الترميمات الساحلية والتي كان حسابها يتم بالعقود يجب أن تُختزل الآن إلى سنوات".
وعملية إعادة البناء هذه لن تكون سهلة على الإطلاق، ويرجع السبب في ذلك كما يقول "روبرت تويلري"، مدير معهد "ويت لاندز" للكيمياء الحيوية بجامعة ولاية لويزيانا في "باتون روج" إلى:"منظومات الجسور والجزر الواقية في دلتا المسيسيبي والتي تعتبر من أكثر المنظومات في العالم من حيث التقدم الصناعي والتعقيد الهندسي. وإذا ما نجحت التقنيات المستخدمة في لويزيانا، فإنه سيغدو ممكناً استخدامها في مناطق دلتا الأنهار في مختلف أنحاء العالم وخصوصاً في الدول التي يؤدي فيها النمو الصناعي والتضخم السكاني إلى تقويض العمليات الطبيعية التي تفيد في الوقاية من الأضرار الناتجة عن العواصف". ومثل هذه التقنيات تعتبر في الحقيقة ذات ضرورة حيوية بالنسبة لسياسات الوقاية طويلة الأمد الخاصة بولاية لويزيانا على وجه التحديد. وحول هذه النقطة يقول "فيبر": "إن نيوأورليانز لن تكون قادرة على النجاة من كارثة أخرى مثل كارثة الإعصار"كاترينا"، ما لم نبدأ في ترميم حاجز الأعاصير الذي كان مقاما قبالة ساحل المدينة".
ويذكر أنه منذ 1930، تقلص حجم دلتا المسيسيبي بمقدار 1900 ميل مربع كما يقول الباحثون وهو ما يساوي ربع المساحة الإجمالية لرود أيلاند. والدلتا معرضة لفقدان 470 ميل مربع أخرى بحلول عام 2050 إذا لم يتم عمل شيء.
في أعقاب فيضان مدمر حدث في دلتا المسيسيبي عام 1927