اسم أصبح أشهر من نار على علم، "كاترينا"، اسم جميل لعاصفة مدمرة اقتلعت الأخضر واليابس والأنفس والأموال، وسيكون لها ما بعدها. ومن قبلها كانت موجات "تسونامي"، اسما أنثويا له رنين، دمرت هي الأخرى كل شيء جميل حولها في بلاد الأقصى من الشرق، ولا أذكر اسم إعصار لا يحمل اسم أنثى، وحتماً يوجد اسم مذكر لإعصار هنا أو هناك، لكن الغلبة لأسماء الإناث. بالله عليكم من مِن "الرجال" لا يتقي غضب الزوجة، خاصة إذا تأخر عند الأصدقاء؟ وكم رجلاً لا يبحث (بدلاً من يكذب) عن عذر واهٍ، هنا وهناك إذا ما أغراه الأصدقاء بالسفر إلى بعض البلاد المغرية؟ وهو غضب محمود لأنه مشروع، لكنه غضب أولاً وأخيراً، وهناك من الزوجات، أعاذنا معشر الرجال، حين يغضبن، يجعلنك، تتمنى غضب "كاتريناً"! بدلاً من غضب المرأة، لأنه لا يقف مع الرجال -عندئذٍ- أحد.
أحد الأصدقاء الطيبين سألني بكل طيب نيّة: لماذا لا تصب الطبيعة غضبها على الأثرياء؟ مساكين الفقراء، ففي كل عاصفة أو زلزال أو براكين، لهم نصيب من الأذى. تشريد، موت، ضياع المال على بساطته وقلّته، خراب أماكن وقل ما شئت، ولا يعلم سر هذا الأمر سوى الخالق، لكن من الملاحظ فعلاً أن الحكومات بشكل عام بغض النظر عن ديانتها أو أيديولوجيتها أو غناها أو فقرها، لا تهتم بالفقراء. صحيح أنهم بشكل عام لا يموتون جوعاً، لكنهم لا يشبعون، شبه عراة، يعيشون على أطراف الحياة بقوة الحيلة، وبرغم هذا كله.. يتكاثرون!
الأغنياء لا يتكاثرون، يزيدون ثرواتهم ويقللون إنجابهم قدر الإمكان، يفضلون التبني للأطفال حتى لا يتشوه جسد الجميلات، والفقراء "يتسلّون" بالإنجاب، باعتقاد شعبي "نتفي جناح طيرك، لا يلفي على غيرك"، بمعنى أن كثرة الأولاد تكسر ظهر الرجل مادياً، فلا يفكر بالزواج من أخرى. وانظر إلى فقراء العالم الغني والفقير في الأحياء الشعبية، هل تشاهدون "كاترينا" الفقر، والجريمة؟ كاترينا العاصفة من الممكن تلافيها، بل والتنبؤ بها، والاستعداد لها والتخفيف من آثارها. لكن لا أحد مهتم لكاترينا الفقر، وكاترينا الأمراض، وكاترينا البطالة، ألأنها لا تعصف بالحاضر مما نشاهده بأعيننا؟ أم لأنها لا تقتلع الأشجار وتدمر المنازل؟ "كاترينات" الفقر والبطالة والطغيان السكاني والطفولة المشردة في بقاع العالم تهدد مستقبل البشرية الذي نحن عنه لاهون، والذي للأسف الشديد لا نقوم بدراسته جيداً.
هل "كاترينا" الأميركية غضب الطبيعة التي يعبث بها الإنسان بلا مسؤولية؟ وهل "تسونامي" غضب الطبيعة يوم تجاهل الإنسان إرهاصاتها؟ أعتقد أنه من الجميل في الإنسان أنه ينسى ولا يتعلم إلا بعد الكارثة، وفي أحيان كثيرة، لا يتعلم، أو ربما أنه لا يريد أن يتعلم حتى يستمتع بالحياة. ولنستمع إلى هذا المنطق، أيهما أريح للإنسان، العلم أم الجهل؟ لا شك أنه الجهل لأنه لا يحتاج للعناء والتعب، وقديماً قال المتنبي، الشاعر العبقري:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم!
"كاترينا" درس من دروس الحياة الكثيرة التي تصفع الشعوب، لكن الحياة لا تتوقف، بل ولا تتعب، وسيتجاوزها الأميركيون، لأن الحياة أصل، وكاترينا فرع. وسيعود أهل نيوأورليانز إلى موسيقاهم في الوقت الذي يضع فيه الكثيرون الزهور على قبور أحبائهم الذين فقدوهم، ولكنهم سيرون المستقبل في عيون الأبناء والأحفاد.
مباركة هي الإنسانية حين توسّد أحبابها القبر، ويدها تعمل لإعمار الدنيا ونفسها تصدح مع كل صباح جميل تعيشه. كم هو عجيب هذا المخلوق، المسمى "الإنسان".