في بداية القرن التاسع عشر، كتب "تيموثي دوايت" رئيس جامعة "ييل"، إحدى أشهر وأعرق الجامعات الأميركية، يقول: "إذا كانت مشيئة الله، المقررة منذ بداية الخليقة، أن يموت الشخص بمرض الجدري، فمن الإثم والمعصية الكبرى، ومن خلال استخدامنا للتطعيمات الطبية، أن نحاول أن نغير أو أن نعارض مشيئة الخالق". هذا الموقف الديني من التطعيمات الطبية، الذي تبناه كل من رجال الكنيسة البروتستانتية والكاثوليكية، لم يقتصر فقط على رجال الدين حينها، بل امتد أيضا إلى المجتمع الطبي. ففي مدينة بوسطن الأميركية، وهي أحد أهم مراكز العلم والاستنارة في المجتمع الغربي، شكّل الأطباء وقتها ما يعرف بالجمعية المضادة للتطعيمات، والتي كان القائمون عليها يؤمنون أيضا، بأن التطعيمات الطبية تتعارض مع قوانين الخالق سبحانه وتعالى. ولحسن الحظ، لم يشترك أطباء الشرق، ببعديه الأقصى والأدنى، في هذا الرأي مع أقرانهم في العالم الغربي. فكتب التاريخ الطبي تذكر أن أوروبا تعرفت على فكرة التطعيمات للمرة الأولى، من خلال زوجة السفير البريطاني لدى الإمبراطورية العثمانية. ففي ذلك الوقت كان أطباء مدينة القسطنطينية (اسطنبول حاليا)، يستخدمون نوعا بدائياً من التطعيم (inoculation)، عن طريق مسح إفرازات بثرات الجدري من شخص مريض، في جلد أو جرح شخص سليم، بهدف توليد نوع من المقاومة في جسده. ورغم خطورة مثل هذا الأسلوب، حيث كان يمكن أن تنتج عنه الإصابة بالمرض في صورته الكاملة، إلا أنه كثيرا ما نجح في تحقيق شكل من أشكال الوقاية، خفضت من احتمالات الوفاة ومن درجة التشوه عند الإصابة بالمرض لاحقاً.
هذا الأسلوب يعتقد أن الأطباء المسلمين نقلوه عن أطباء الصين والهند، حيث كان استخدامه واسع النطاق في تلك الدول، ضمن ممارسات الطب "الآرفيدي". وسرعان ما نقلت زوجة السفير هذا الأسلوب إلى دول أوروبا، لتستخدمه العائلات الملكية الأوروبية في حماية أطفالها من الأمراء والأميرات، ضد خطر الجدري واسع الانتشار حينها. وهو ما يعني أن الأطباء المسلمين لم يكن لديهم اعتراض عقائدي ضد فكرة التطعيمات، كما كان الحال مع نظرائهم الغربيين. والآن، وبعد مرور قرابة قرن على تلك المرحلة، ثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن التطعيمات الطبية، تشكل أحد أهم الأسلحة المتوفرة للجنس البشري في صراعه الأبدي مع المرض.
ولكن على رغم هذا الموقف الديني التاريخي للإسلام من التطعيمات، فإن الفترة الأخيرة شهدت معارضة شديدة للتطعيم ضد شلل الأطفال، من قبل الشيوخ وأئمة المساجد في نيجيريا، على أساس أن التطعيم غير آمن ويسبب العقم لاحقاً. هذه المعارضة ليست ضد فكرة التطعيمات من الأصل، وليست مبنية على أساس ديني، بل هي فقط ضد نوع التطعيم الذي توفره الشركات الغربية حالياً في نيجيريا.
وبشكل مبسط، يمكننا تقسيم الأمراض التي تصيب الإنسان إلى قسمين رئيسيين. القسم الأول، هو قسم الأمراض غير المعدية، مثل السرطان، وأمراض القلب والشرايين، وداء السكري، ومرض هشاشة العظام، وغيرهما. أما القسم الثاني، فهو قسم الأمراض المعدية، والتي تنتج عن غزو الجسم البشري، من قبل كائن حي آخر، مثل الفيروسات، والبكتيريا، والطفيليات، وبعض أنواع الديدان. وهذه المجموعة تضم عدوى المجاري التنفسية السفلية، والإيدز، وأمراض الإسهال، والسل، والملاريا، والحصبة، والسعال الديكي، والتيتانوس (الكزاز)، والتهابات الأغشية المغلفة للمخ (التهاب السحايا)، والزهري، والتهاب الكبد الفيروسي (ب)، والأمراض الاستوائية، وغيرها الكثير. وهذا الترتيب السابق يعبر عن عدد الوفيات التي يتسبب فيها كل من تلك الأمراض. فمثلا تتسبب عدوى المجاري التنفسية السفلية، مثل الالتهابات الرئوية، في وفاة أربعة ملايين شخص حول العالم سنوياً، ولذا تحتل رأس القائمة السابقة. بينما يحتل السل والملاريا وسط القائمة، حيث يتسببان معاً في وفاة ثلاثة ملايين شخص سنوياً. وبوجه عام، تتسبب عشرة فقط من الأمراض المعدية الأكثر انتشاراً، في وفاة قرابة ستين مليون شخص سنوياً حول العالم.
هذا الثمن الإنساني الفادح الذي تدفعه البشرية سنوياً للأمراض المُعدية، يزداد مأساوية إذا ما أخذنا في الاعتبار أنه كان من الممكن إنقاذ الملايين من تلك الأرواح من خلال التطعيمات. فالكثير من الأمراض المعدية يمكن الوقاية من الإصابة بها من خلال التطعيمات. ولكن رغم هذه الحقيقة البسيطة، لا يزال جزء من الأمراض المعدية القابلة للتطعيم، يشكل أكثر من نصف إجمالي جميع الأمراض التي تصيب شعوب الدول الفقيرة. وهو ما يعني أن من بين كل حالتي مرض في تلك الدول، تنتج واحدة منهما بسبب مرض معدٍ، كان من الممكن الوقاية منه في الأساس.
إن هذا الوضع هو ما يحاول البعض تغييره من خلال ما يعرف بمبادرة "الدعم المالي الدولي للتطعيمات" (International Finance Facility for Immunization) وهي مبادرة سياسية من الدول الأوروبية، لخلق صندوق تبرعات، يهدف إلى توفير النفقات المالية اللازمة لتطعيم أكثر من ثلاثين مليون طفل، يفوته