إذا كان البيت الأبيض يريد أن ينقل النقاش حول إعصار "كاترينا" إلى مرحلة أخرى غير ما اتسمت به لحد الآن من لعبة إلقاء اللوم على الآخرين، وإذا كان يريد تجنب تكرار مشاهدة صور الجثث المتحللة التي مازالت تطفو فوق المياه، فهناك خطوة لا مناص منها يمكن للرئيس بوش أن يتخذها لحماية الناس في المستقبل وهي: حل مشكلة الاحترار الكوني، أو ظاهرة الاحتباس الحراري. فعلى الرغم من أننا لا نعرف على وجه الدقة مدى ارتباط إعصار "كاترينا" بالاحترار الكوني، فإن هناك مؤشرات متزايدة تفيد بأن الاحترار الكوني سينتج عنه المزيد من الأعاصير القوية من الدرجة الخامسة. والآن بعدما رأينا الدمار الذي ألحقه إعصار "كاترينا" بولاية لويزيانا - علما بأن هذا الإعصار من الدرجة الرابعة فقط- فإنه سيكون من الجنون أن يستمر الرئيس بوش في رفضه بلورة سياسة وطنية حول الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وفي هذا الصدد صرح خمسة علماء في مجال المناخ "أن الأدلة العلمية المتاحة تشير إلى أنه من المرجح أن يتسبب الاحترار الكوني في أعاصير أكثر دماراً مما كانت عليه في السابق". والمعروف بشأن تكون الأعاصير أنها تستمد طاقتها من المياه الدافئة، لذا فإن ارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات بسبب الاحترار الكوني يمد الأعاصير بقوة هائلة تجعلها أشد قسوة. وقد أفادت التجارب العلمية التي أجريت للتأكد من مدى تأثير غازات الاحتباس الحراري، المنشورة في دورية "كلايمت جورنال" السنة الماضية أن الاحتباس الحراري مسؤول بدرجة مباشرة على مضاعفة عدد الأعاصير من الدرجة الخامسة المدمرة. بالإضافة إلى ذلك هناك مزيد من الأدلة العلمية الموثوقة التي تؤكد أن الأعاصير أصبحت أكثر قوة من السابق، رغم انخفاض عددها. وذكرت "نيتور ماجزين" في دراسة أجراها المتخصص في الأعاصير كيري إمانويل أن شدة الأعاصير شهدت ارتفاعاً ملحوظاً طيلة الثلاثين سنة الماضية مؤكداً بذلك التجارب العلمية السابقة التي وصلت إلى النتائج ذاتها. ويضيف السيد إمانويل "أن السبب وراء اشتداد حدة الأعاصير في السنوات الأخيرة راجع بالأساس إلى تأثير الاحتباس الحراري". ويستطرد قائلا "تشير الدراسات العلمية التي قمت بها إلى أن الاستمرار في الاحترار سيؤدي إلى ارتفاع جوهري في الخسائر المرتبطة بالأعاصير خلال القرن الحادي والعشرين".
وليس هذا فقط بل يسهم الارتفاع الحراري في رفع مستوى مياه البحر، ما يضاعف القوة التدميرية للأعاصير. وفي هذا السياق تنبأت إحدى وكالات حماية البيئة في دراسة لها بارتفاع مياه المحيط الأطلسي ومياه خليج المكسيك بحوالى قدم واحد بحلول سنة 2050، وسيستمر الارتفاع ليصل إلى قدمين في 2100. وبحسب تلك الوكالة فإن ارتفاعاً في مستوى المياه بحوالى قدمين سيؤدي إلى ابتلاع جزء مهم من الولايات المتحدة يتعدى في مساحته ولاية ماساشوسيتس. كما سينتج عن ذلك الارتفاع في مستوى المياه المزيد من الفيضانات الساحلية. هذا وقد أشارت دراسة أجرتها الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ أن من شأن ارتفاع في مستوى مياه البحر إلى قدم واحدة أن يرفع من نسبة الدمار الناتج عن الفيضانات من 36 إلى 58%. وهو ما يؤكد الحاجة الملحة إلى تعزيز الحماية الساحلية والتقليل من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون. غير أن المشكلة مع إدارة الرئيس بوش هي استمرارها في معارضة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحد من الاحترار الحراري بحجة أن ذلك قد يضر الاقتصاد الأميركي ويؤدي إلى إبطاء نموه.
لكن ذلك التخوف بعيد عن الواقع، وقد فصلت ذلك في مقال كتبته في وقت سابق عن مدينة بورتلاند، حيث أوضحت فيه كيف أن هذه المدينة الشجاعة بذلت جهوداً رائدة لخفض الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير حيث تشير القياسات الواردة من هناك إلى انخفاض في إجمالي انبعاث الغازات إلى ما دون المستوى الذي كانت عليه سنة 1990، وهو المستوى الذي وضعه اتفاق "كيوتو" كمقياس معقول لانبعاث الغازات. وبالرغم من تلك الجهود الحثيثة التي بذلتها مدينة بورتلاند في مجال خفض الغازات، إلا أن اقتصادها حافظ على انتعاشه ولم يتضرر أبداً. وهو ما يفتح المجال أمام مناطق أخرى في الولايات المتحدة للاقتداء بنموذج بورتلاند الرائد. ومع أن التقديرات اللاحقة أظهرت هفوة بسيطة حدثت في قياس نسبة انخفاض الغازات المسببة للاحتباس الحراري في بورتلاند، حيث إنها بقيت أعلى بقليل من مستوى 1990، إلا أن ذلك لا ينفي الاتجاه العام الذي يكرس مسيرة الخفض من الغازات دون التأثير سلبا على الاقتصاد.
ولعل النموذج الجيد لبورتلاند قد يشجع الرئيس بوش على اتخاذ خطوات مماثلة في المستقبل للتقليل من ظاهرة الاحتباس الحراري والتقليص من احتمالات التعرض للكوارث الطبيعية المدمرة. ومن أهم الخطوات التي اتبعتها بورتلاند للتخفيض من انبعاث الغازات السامة تشجيع استعمال الدراجات والمشي بدلا من السيارات، وتشجيع الشركات على نقل عمالها بحافلات مشتركة عوض منحهم مواقف مجانية للسيارات، بالإضافة إلى اعتماد مصابيح خ