ليس من طبع الحياة السياسية اللبنانية الانقلاب المفاجئ أو الضخم. لكنها حياة تتسم بقلة الاستقرار، والتقلبات المستمرة. وقد كان محور تقلباتها منذ العام 1998 الصراع على السلطة والصلاحيات والمواقع بين رئيس الجمهورية أميل لحود، ورئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري في ظل الوصاية السورية. وقد بدأ الصراع في الحقيقة حوالي العام 1994 عندما دخل بعض الضباط إلى مكتب وزير المالية وأهانوا سكرتيرته لأنّ وزير الدولة للشؤون المالية آنذاك (رئيس الوزراء الحالي فؤاد السنيورة) تعرض لبعض امتيازاتهم في ما يحسبون. كانت ولاية الرئيس الياس الهراوي تقترب من نهايتها (1989-1995)، وكان العماد أميل لحود قائد الجيش، والاحتياطي الذهبي لسوريا يرغب بشدَّةٍ في الوصول إلى سُدَّة الرئاسة. ثم ما لبث الرئيس حافظ الأسد أن قرر في صيف العام 1995 التمديد ثلاث سنوات للرئيس الهراوي. واعتبر العماد لحود وأنصاره (وأهمُّهم حينذاك نائب مدير المخابرات بالجيش العقيد جميل السيّد، المقرَّب أيضاً من السلطة السورية) أنّ الرئيس الحريري كان وراء التمديد للهراوي تجنباً للكأس المرّة المتمثّلة بلحود. ودليلهم على ذلك أنّ الحريريَّ كان قد أشار لذلك عَلَناً قبل إشارة الرئيس الأسد في زيارةٍ له إلى القاهرة. كما ذكر السيّد لبعض الصحافيين أنّ حلفاء الحريري في سوريا وفي طليعتهم العماد حكمت الشهابي، ونائب الرئيس عبد الحليم خدَّام، ساعدوا في الوصول إلى هذا القرار، وسيندم الجميع على هذا التمديد، وعلى حرمان لبنان من رئيسٍ نادر المثال! وعلى كل حال، فما لم يستطعه لحود والسيد ومعسكرهما عام 1995 فازوا به عام 1998، إذ جاء العماد لحود إلى الرئاسة على حصانٍ أبيض، وخرج الحريري وأنصاره من السلطة، وليس إلى منازلهم، بل إلى الاتهامات والمحاكمات بحجة الفساد. واستطاع الحريري شقَّ طريقه لرئاسة الحكومة مرةً أخرى عام 2000 بعد فوزه المدوّي مع كتلةٍ كبيرةٍ في الانتخابات النيابية في تلك السنة. لكنّ الرئيس حافظ الأسد كان قد توفّي بعد مرضٍ عُضال، وخَلَفَهُ ابنه الرئيس بشار الأسد، الذي ما كان يملك أية عواطف تجاه الرئيس الحريري، ولذلك تراوحت سياسته تجاهه وطوال أكثر من خمس سنواتٍ بين الابتزاز والاستبعاد. وظلَّ لحود طوالَ هذه المدة الأداة المفضَّلة للرئيس بشار الأسد في تعقُّب الحريري، وتعطيل أعمال حكوماته، ومحاصرته وإحراجه بشتى الوسائل.
تركّزت سياسة سوريا ولحود تجاه الحريري في ثلاثة خطوط: الاستئثار بالسياسة الخارجية والأمنية بحجة حماية المقاومة، والأمانة للثوابت اللبنانية والعربية والتدخل في السياسة المالية والاقتصادية للدولة اللبنانية – بعد أن تُركت للحريري في عهد الهراوي-، وبهدف إفشالها لإثبات عجزه حتى في هذا المجال، وبخاصةٍ مؤتمر باريس-2 الذي أَمَّل الحريري من ورائه إنقاذ لبنان من وهدة العجز والدَين. والخط الثالث التركيز على عدم أمانة الحريري للمصالح القومية وللمقاومة ضد الاحتلال، وخضوعه للابتزازات الدولية، وسكوته عن استشراء الفساد وتفاقُم العجز والدَين في عهود حكوماته المتعاقبة. وقد سيطرت عناصر عسكرية وأمنية على مؤسسات الدولة وعلى الوزارات والمرافق ذات الموارد وعلى القضاء وحتى على الجامعة اللبنانية. وما جرى بعد ذلك صار معروفاً جيداً. فقد أرهقت التجاذّباتُ بين الطرفين الحياة السياسية اللبنانية. وقاد اللواء جميل السيّد من معقله الجديد في الأمن العامّ معارك سياسيةً، وشائعات وتربصات ضدَّ الحريري، ما لبث أن شاركه فيها العميد مصطفى حمدان قائد الحرس الجمهوري، وسائر قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، إضافةً لِثُلَّةٍ من السياسيين والمثقفين. وهذا النظام الأمني الذي كان رأسه الرئيس لحود "لا يريد شيئاً لنفسه" ما لبث أن فاحت منه روائح الفساد والفضائح في قضية بنك المدينة والكازينو والكهرباء والفيول والجمارك... الخ. وعلى مشارف العام 2002 كانت كلُّ الهالة السابقة من حول لحود قد زالت، وصار الناس يتطلعون إلى نهاية عهده، في الوقت الذي كان فيه هو والرئيس الأسد وأجهزتهما الأمنية يُخْفُون مسألة التمديد له، والتي حدثت فعلاً في مطلع خريف العام الماضي، وخرج على أثرها الرئيس الحريري من رئاسة الحكومة رغم أنف الأكثرية النيابية، وجيء بالرئيس عمر كرامي بدلاً منه. واعتبر لحود- أو هكذا اعتقدنا- أنه حصل على كل ما يريد، في حين انصرف الرئيس الحريري للإعداد لانتخابات العام 2005 مؤمِّلاً بعودةٍ أقوى من عودة العام 2000. قلتُ إنّنا اعتقدنا أن الحريري سيُترك وشأنَه بعد أن وافق على التمديد للحود لثلاث سنوات، وخرج من الحكومة. لكنّ حملة لحود وسوريا استمرت عليه، وهذه المرة بسبب القرار الدولي رقم 1559 الذي يدعو سوريا للانسحاب من لبنان، ويطالب بنزع سلاح حزب الله والمخيمات الفلسطينية، وبالحفاظ على الدستور واتفاق الطائف. قال السوريون ولحود عندما كانوا منهمكين بقطف "ثمار" التمديد، إنّ الحريري كان من وراء القرار الدولي. وجرت محاولة لاغتيال النائب مروان حماده أحد المعارض