لست من ممارسي الشماتة في السياسة أو في أي مجال من مجالات الحياة العامة. لكنني من دعاة الاستفادة من دروس وتجارب الحياة واستخلاص العبر الضرورية. هذا على المستوى الفردي واجب. فكيف عندما يكون المرء مسؤولاً عن أمة أو شعب أو مؤسسة عامة تعنى بشؤون ومصير الناس، أو يكون في موقع لكل قرار فيه نتائج قد تعمر عالماً وقد تدمر آخر؟
أتوقف اليوم وبعد متابعة دقيقة، عند الإعصار الذي ضرب ولايات لويزيانا وميسيسيبي وألاباما الواقعة على الساحل الجنوبي في الولايات المتحدة الأميركية، وعن النتائج الكارثية التي خلفها لجهة الخسائر البشرية والخسائر المادية الهائلة وكذلك الخسائر المعنوية والسياسية التي أصابت قيادة الإدارة الأميركية.
لقد بدا الضياع والإرباك سيدا الموقف. أكبر دولة في العالم، بل، قائدة العالم، صاحبة القدرات الهائلة مالياً وتكنولوجياً، بدت عاجزة عن المواجهة. كل التكنولوجيا لم تنفع لا في وقف الإعصار، ولا في التخفيف من اندفاعاته، ولا في مواجهة آثاره بسرعة، ولا في إزالة مخلفاته لاحقاً بسرعة، ولا في مساعدة الناس المهجرين. لقد انكشفت أميركا. انكشفت داخل أميركا. انكشفت حقيقتها. وانكشف واقعها وبدا إلى حد ما كأن كل شيء مزيفاً. أقول ذلك استناداً إلى ما لمسناه على الأرض وإلى ما تعانيه دول وشعوب أخرى. نحن في بلداننا لو بدأ موسم الشتاء باكراً، أو كان الموسم قاسياً وغرقت بعض الشوارع بالمياه وتعرقل السير، وتأثرت بعض المنازل وحصلت انهيارات جبلية بسيطة – على خطورتها – قياساً على طبيعة بلاد الغير، لأقمنا القيامة وما أقعدناها ولاعتبرنا أن ثمة تقصيراً وإهمالاً من قبل دولتنا ومؤسساتها، ولذهب كثيرون إلى مطالبة المسؤولين بالاستقالة! ونحن لا نملك إمكانيات تسمح لنا بتجنب كوارث أو بإزالة آثار تقلبات الطقس بسرعة. ولذلك عندما شاهدنا ما يجري في أميركا استهولنا الأمر. دون أن يعني ذلك أننا استسهلنا أو يجب أن نستسهل ما يجري عندنا وبالتالي نبرر التقصير في أي مجال من المجالات. لكن ما جرى في نيوأورليانز وصل إلى حد الفضيحة.
الأغنياء تمكنوا من ترك المدينة. لحقت بهم خسائر لكنهم أنقذوا حياتهم عموماً. أما الكارثة فحلت على السود والفقراء. هؤلاء الذين لا يملكون إمكانات مادية ولم يجدوا من يعينهم. لكن البيض والسود تعرضت منازلهم أو ما تبقى منها، والمتاجر والمؤسسات العامة إلى النهب. النهب المنظم. وقوى الشرطة والدفاع المدني والمؤسسات الأمنية الأخرى بدت عاجزة وبعض العناصر فيها كان شريكاً في هذه العملية. حصلت تفجيرات، وعمليات قتل وتدمير مبرمج بعد الكارثة الطبيعية للاستيلاء على مغانم!!
هذه هي الثقافة والتربية السائدة هناك والتي لا تختلف عما هو قائم في عدد آخر من الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة متخلفة!! نيوأورليانز كانت تغرق وتستغيث ولا من معين. وفوق ذلك فلتان أمني خطير.
كل استطلاعات الرأي أكدت أن غالبية الأميركيين لا توافق على أداء الرئيس الأميركي في مواجهة الكارثة وهو الذي اكتفى بالقول في الأيام الأولى: "أنا أدرك قلق الناس على الأرض، ولكنني أود أن يدرك الناس أن هناك مساعدات في طريقها إليهم"! وأشار إلى أنه يعمل على "معالجة الفلتان الأمني ومحاولة احتواء أسعار البنزين باستخدام كميات من النفط المخزون جزءاً من الاحتياطي الاستراتيجي".
وأجمعت وسائل الإعلام الأميركية على القول تقريباً "إنه أسوأ خطاب في حياته". وظهرت صورة بوش، "صورة رئيس معزول لا تليق برئيس دولة يواجه الحرب والكوارث الطبيعية" كما قالت صحيفة "مانشستر يونيون ليد"... أما شبكة NBC الأميركية، فقد بثت مشاهد لعدد من رجال الشرطة يشاركون بهدوء مذهل، وهم يدركون أن الكاميرا تلتقط صورهم، في أعمال النهب، التي لم تقتصر على الغذاء والماء، لكن اللصوص سرقوا التلفزيونات والكاميرات والمعدات الالكترونية وسنارات الصيد، والأسلحة النارية، مما دفع أحد السياح الذين بقوا في المدينة إلى القول:"هذا قلب بغداد" في إشارة إلى النهب الشامل المنظم الذي تعرضت له العاصمة العراقية بعد سقوطها عام 2003.
وفي الحديث عن بغداد، بدا أن آلافاً من أبناء نيوأورليانز يخدمون في العراق في إطار قوات الاحتلال وعددهم أكبر بكثير من رجال الأمن الباقين في المدينة. وقد اضطرت السلطات الأميركية الغارقة قواتها في مستنقع حروب العراق إلى سحب عدد من أفراد القوات العاملة هناك من طيارين وجنود مشاة للمساعدة في إنقاذ أهلهم في المدينة المنكوبة. ليست أميركا قادرة على مواجهة كارثتين: كارثة طبيعية هبت على نيوأورليانز، وكارثة مفتعلة ومن صنع أميركي هبت على العراق وانعكست على الأميركيين أيضاً!!
لقد بدت الإدارة الأميركية ولا تزال في مأزق حقيقي. وقد أثرت الكارثة الطبيعية على صدقية وسمعة وصورة الرئيس بوش مما أدى إلى انخفاض إضافي في شعبيته بعد الانخفاض الذي سببته حربه على العراق وسياسته المعتمدة هناك حتى الآن.
والحقيقة المؤلمة في نيوأورليانز تتجسد في ما أشرنا إليه في البد