يستعد الناخبون في ألمانيا للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي ستحدد اتجاه دولة من أهم الدول الكبرى، بما في ذلك توجهات سياستها الخارجية وبالتالي موقفها تجاه قضايانا العربية. ولكننا، في العالم العربي، لا نهتم بأمر أياً يكن حجم تأثيره علينا إلا بعد أن يقع ويُحدث تأثيراته. فلا نستعد مسبقاً لما يمكن أن يحدث ونعد أنفسنا له عبر البحث في الاحتمالات المختلفة وتقدير السيناريوهات المترتبة على كل من هذه الاحتمالات.
والانتخابات الوشيكة في ألمانيا يوم 18 سبتمبر الجاري، ليست عادية سواء بالنسبة لها أو بشأن تأثيراتها المحتملة على علاقاتها معنا ومواقفها تجاه قضيانا. فالمستشار جيرهارد شرودر وحزبه الاشتراكي الديمقراطي يواجهان منافسة قوية من النجمة السياسية الصاعدة أنجيلا ميركل وحزبها الديمقراطي المسيحي. واستطلاعات الرأي العام تفيد بأن نسبة لا تقل عن عشرين في المئة من الذين اقترعوا للحزب الاشتراكي في الانتخابات الأخيرة عام 2002 تحولوا صوب الحزب الديمقراطي المسيحي، وأن مثلهم على الأقل قد يفعلون الشيء نفسه.
وبالنسبة إلينا، تأتي هذه الانتخابات في وقت حققت فيه إسرائيل اختراقاً جديداً في علاقاتها مع ألمانيا، ونجح أنصارها في هذا البلد في إقناع الكثير من المؤسسات والفاعليات الرسمية بتنظيم احتفالات واسعة بالذكرى الأربعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
فالحضور الإسرائيلي في ألمانيا أقوى من أي حضور عربي، بالرغم من أن الفرص المتاحة لنا كبيرة، فالألمان منفتحون علينا، كما أنهم من أكثر الشعوب إقبالاً على الحوار والتفاعل مع غيرهم، ولذلك فهم مستعدون للحوار معنا وراغبون في توسيع نطاقه، ولابد أن كل من شارك في الحوارات المحدودة بين هيئات عربية وألمانية لاحظ ذلك. وكان هذا واضحاً في "الكارشنتاج" البروتستانتي الثلاثين الذي أقيم مؤخراً في مدينة هانوفر، وشارك فيه كاتب السطور. و"الكارشنتاج" كلمة ألمانية تعني يوم الكنيسة. لكن الحدث الذي يقام كل سنتين تحت هذا الاسم تنظمه حركة شعبية بروتستانتية، وليس الكنيسة التي تشارك فيه وتدعمه.
وأهم ما يميز هذا الحدث هو الحوار الذي يتسع لمختلف الآراء والأفكار، بما فيها تلك التي تنتقد الكنيسة نفسها، أو تصدر عن منطلقات مادية لا دينية.
والحوار هو خير سبيل اهتدت إليه البشرية لترشيد العلاقة بين الأفراد والجماعات والدول والثقافات. إنه الوسيلة الوحيدة لتصحيح المعرفة الخاطئة أو الناقصة عن الآخر، أي آخر، أو ما نطلق عليه الصور النمطية Stereo Types.
ولا سبيل إلى وضع حد لهذه الصور إلا عبر الحوار الذي تزداد الحاجة إليه بين العرب والمسلمين من ناحية والغرب من ناحية أخرى في المرحلة الراهنة. وكان "الكارشنتاج" الثلاثون فرصة لمناقشة وتقييم تجربة الحوار المصري- الألماني الذي بدأ عام 2003 بمبادرة من الهيئة القبطية الإنجيلية في القاهرة بالتعاون مع الأكاديمية الإنجيلية في لوكوم، وشارك فيه عدد كبير من المصريين والألمان يمثلون اتجاهات وتخصصات مختلفة، وبينهم رجال دين مرموقون مسلمون ومسيحيون. وهذه إحدى تجارب قليلة في الحوار العربي- الغربي تتميز بالاستمرارية. فهي لم تقتصر على ندوة واحدة ليوم أو عدة أيام، بل تواصلت على مدى خمس جولات حتى الآن. وقد بدأت هذه التجربة في لحظة تاريخية مشحونة بالمرارات والشكوك والتحفز المتبادل بين العالم العربي- الإسلامي والغرب بوجه عام.
والحوار في مثل هذه الأجواء يكون أصعب، ولكنه يكون أكثر أهمية أيضاً. وكان من الضروري أن تؤثر هذه الأجواء على مسار الحوار المصري- الألماني. ولذلك فليست مصادفة أن هذا الحوار كان أكثر إيجابية وفائدة في مجال المعرفة المتبادلة والتعلم المتبادل في المجالات التي يمكن أن تعتبر أبعد نسبياً عن البؤرة المركزية التي يزداد فيها أثر التداعيات التي ترتبت على هجمات 11 سبتمبر وتوابعها.
ويمكن الإشارة، مثلاً، إلى قضايا الدين والمجتمع والنظام السياسي، فكبيرة هي الفائدة التي تحققت للجانب المصري في هذا الحوار عندما ازدادت معرفته بالنظام السياسي الألماني، وبصفة خاصة على صعيد موقع الدين والمؤسسات الدينية في هذا النظام والسمات الخاصة للعلمانية التي يقوم عليها.
فقد عرفنا الدور الإيجابي الذي يلعبه الدين والمؤسسات الدينية في نظام علماني يفصل بين الدين والسياسة، ولكنه يحفظ للنظام السياسي مزايا الاستفادة من دور الدين ومؤسساته في التشريع وفي صنع القرار، ولكن دون تدخل مباشر.
ولهذه المعرفة أهمية كبيرة في بلد، مثل مصر، يبحث منذ أكثر من قرنين عن نظام سياسي لا يستبعد الدين ولكن لا يخضع في الوقت نفسه لرجال الدين، والحركات السياسية التي تتخذ الدين وسيلة لدعم نفوذها وقوتها. ويمكن أن يكون لهذه المعرفة أثرها عند تغيير الدستور المعمول به حالياً في مصر، إذ ستكون قضية العلاقة بين الدين والدولة، والدين والسياسة، في مقدمة القضايا الخلافية المرشحة لأن يكون الحوار حولها ساخناً بل مشتعلاً.
وربم